ثُمَّ بَيَّنَ أَوَّلَ أَصْلٍ بُنِيَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ مَنْ عَرَفَهَا، فَقَالَ: (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) بَلْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ فَادْعُوا وَاعْبُدُوا، وَلَهُ وَحْدَهُ فَارْكَعُوا وَاسْجُدُوا، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ فَتَوَجَّهُوا، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ، وَلَا مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْحَاكِمِينَ، وَلَا كَاهِنًا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَلَا شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَلَا نَجْعًا وَلَا شَجَرًا، وَلَا نَهْرًا مُقَدَّسًا كَالْكِنْجِ وَالنِّيلِ، وَلَا حَيَوَانًا كَالْعِجْلِ أَبِيسَ، فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لِلَّهِ لَا يَذِلُّ نَفْسَهُ بِالتَّعَبُّدِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ بِدُعَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِإِيمَانِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمُدَبِّرُ الْمُسَخِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ خَاضِعٌ لِإِرَادَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ غَيْرَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَى الَّتِي هِيَ قِوَامُ جِنْسِهِ وَمَادَّةُ حَيَاةِ شَخْصِهِ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) 20: 50 فَإِلَيْهِ وَحْدَهُ الْمَلْجَأُ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ أَوْ يَجْهَلُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْحِسَابِ (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أَيِ الْحَقُّ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ مِنْ جَهَالَةِ الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ أَقْوَامَهُمْ وَمِنْهُمْ آبَائِي: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ذَلِكَ حَقَّ الْعِلْمِ، لِاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَ آبَائِهِمُ
الْوَثَنِيِّينَ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقَةً لَيْسَ لَهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ أَدْنَى نَصِيبٍ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ فِي مِئَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تُتْلَى فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ بِالْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ، صَارَ يَجْهَلُهَا كَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ نَفْسِهِ، فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِ اللهِ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ أَوْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضِ مَا يُحِبُّونَ مِنَ النَّفْعِ، فَيَدْعُونَهُمْ خَاشِعِينَ رَاغِبِينَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيُسَمُّونَهُمْ شُفَعَاءَ وَوَسَائِلَ عِنْدَ اللهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ جَمِيعَ رُسُلِ اللهِ دَعُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْأُمَمِ، زَاعِمِينَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ انْفَرَدَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَالرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فَقَطْ، كَمَا يَفْهَمُونَ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْإِفْرِنْجِ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا فِي الصُّحُفِ وَفِي أَسْفَارِ التَّارِيخِ وَفِيمَا يُسَمُّونَهُ فَلْسَفَةَ الدِّينِ أَوْ فَلْسَفَةَ التَّفْكِيرِ، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْبَشَرَ نَشَئُوا عَلَى الْأَدْيَانِ الْوَثَنِيَّةِ حَتَّى كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ إِبْرَاهِيمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زُهَاءِ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ بِتَصْرِيحِهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ رُسُلًا دَعَوْهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ قَوْمَهُ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ الصَّالِحِينَ الْمَيِّتِينَ وَاتَّخَذُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالْأَصْنَامَ، وَكَانَ الْبَشَرُ قَبْلَهُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ وَتَوْحِيدِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.