عَصْرِهِمْ وَيَسُنُّوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ تَقْلِيدَهُمْ، بَلْ لِيَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ فِي طَلَبِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: - أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ - 5: 104 عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مُتَفَرِّقَةٍ، ثُمَّ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مُجْتَمِعَةٍ.
وَفِي قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا التَّقْلِيدِ عَنْ ثَمُودَ: - قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا - 62 وَعَنْ مَدْيَنَ: - قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ - 87؟ .
وَمِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَعُودَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ مِنْ مُدَّعِي اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ إِلَى التَّقْلِيدِ - لَا تَقْلِيدَ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ اتِّبَاعًا لِلْقُرْآنِ - بَلْ تَقْلِيدُ آبَائِهِمْ وَشُيُوخِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى فِيمَا ابْتَدَعُوا أَوْ قَلَّدُوا أَهْلَ الْمِلَلِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَالنَّذْرِ لِغَيْرِ اللهِ، وَشَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لِيَقُولُنَّ لَيْسَ هَذَا بِعِبَادَةٍ لِغَيْرِ اللهِ، بَلْ تَوَسُّلٌ إِلَى اللهِ وَتَقَرُّبٌ إِلَيْهِ؟ ! فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا مَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ لِأَجْلِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَ أَمْرُهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَقْلِيدُهُمْ لِمَنْ يَفْعَلُ فِعْلَهُمْ أَوْ يُقِرُّهُ مِنْ مَشَايِخِ الْأَزْهَرِ وَمَشَايِخِ الطُّرُقِ، فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمُخْتَصُّونَ بِفَهْمِ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ. وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ حُجَّةً مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ لَقَبِلَهَا مِنْ مُقَلِّدِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ فَإِنَّهُ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، لَا يَظْلِمُ وَلَا يُحَابِي بَعْضُ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ.
(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ) :
الِاخْتِلَافُ طَبِيعِيٌّ فِي الْبَشَرِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَا لَا تَظْهَرُ مَزَايَا نَوْعِهِمْ بِدُونِهِ، وَفِيهِ غَوَائِلُ وَمَضَارُّ شَرُّهَا وَأَضَرُّهَا التَّفَرُّقُ وَالتَّعَادِي بِهِ، وَقَدْ شَرَعَ اللهُ لَهُمُ الدِّينَ لِتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِكِتَابِ اللهِ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الْمُزِيلِ لِلِاخْتِلَافِ أَيْضًا، فَاسْتَحَقَّ الَّذِينَ يُحَكِّمُونَهُ فِيمَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ رَحْمَةَ اللهِ وَثَوَابَهُ، وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ سُخْطَهُ - تَعَالَى - وَعِقَابَهُ، وَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ 119 فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَنُعِيدُ ذِكْرَهَا فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مِنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ، وَهَاكَ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَعْمَالِ، تَابِعَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي الْعَدَدِ.
(الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتِّبَاعُ الْإِتْرَافِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِجْرَامِ) :
بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي خَوَاتِيمِ هَذِهِ السُّورَةِ الْأَسْبَابَ النَّفْسِيَّةَ لِهَلَاكِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَصَّ عَلَيْنَا أَنْبَاءَ