وَسُنَنِ الْإِبْدَاعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْكَهْرَبَاءِ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَأَظْهَرُهُ آيَةُ النُّورِ الْعُظْمَى فِي سُورَتِهِ: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (24: 35) وَقَوْلُهُ فِي مَثَلِهِ مِنْهَا: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ) (24: 35) وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّ اللهَ خَلَقَ (الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) (55: 15) أَوْ (مِنْ نَارِ السَّمُومِ) (15: 27) وَهِيَ مِنْ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي أَحَدِ أَيَّامِهَا كُتْلَةً نَارِيَّةً مُشْتَعِلَةٍ، وَرَاجِعْ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ (7: 134) فِي رُؤْيَتِهِ - تَعَالَى -.
فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ السُّنَنُ الْعَجِيبَةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَكُونَ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ بِهَا أَسْبَقَ إِلَى مَا أَظْهَرَهُ الْعِلْمُ مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ؟
قُلْنَا: أَوَّلًا - إِنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ الْمَقْصُودَةِ لِذَاتِهَا، هُوَ إِيرَادُهَا فِي آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي السُّوَرِ مَمْزُوجَةٍ بِغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ وَالْفَوَائِدِ لَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ مِنْ سُورَةِ " يُونُسَ " الَّتِي صَدَرَتْ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ.
ثَانِيًا - إِنَّ هَذِهِ السُّنَنَ قَدْ ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَقِيدَتَيِ: التَّوْحِيدِ، وَالْبَعْثِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ تُذْكَرَ مَعَهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
ثَالِثًا - إِنَّ الْعِلْمَ التَّفْصِيلِيَّ بِهَا لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْوَحْيِ الذَّاتِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَصِلُ إِلَيْهَا الْبَشَرَ بِكَسْبِهِمْ وَبَحْثِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْوَحْيُ مُرْشِدًا لَهُمْ إِلَيْهَا.
رَابِعًا - لَوْ جُمِعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ تَامٌّ لِجَمِيعِ أَطْوَارِ التَّكْوِينِ لَتَعَذَّرَ فَهْمُهَا قَبْلَ تَحْصِيلِ مُقَدِّمَاتِهِ بِالْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، وَلَكَانَتْ فِتْنَةً لِبَعْضِ مَنْ فَهِمَهَا بِالْجُمْلَةِ، وَإِنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ وَدَوَرَانِهَا وَاضِحَةً كَآيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (7: 54) وَفِي غَيْرِهَا، وَلَا يَزَالُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَهَا.
خَامِسًا - وَلَوْ لَمْ يَعْرِضْ لِلْحَضَارَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالشِّقَاقِ الدِّينِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ مَا وَقَفَ بِتَرَقِّي الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ، لَسَبَقُوا إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بَعْدَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ وَالْجَرْيِ عَلَى آثَارِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعَارِفَ الْكَوْنِيَّةَ يَمُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا مَا لَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا يُوقِفُ سَيْرَهَا.
هَذَا، وَإِنَّ مُؤَلِّفَ هَذَا التَّفْسِيرِ الضَّعِيفَ قَدْ صَرَّحَ فِي مَقْصُورَتِهِ الَّتِي نَظَمَهَا فِي عَهْدِ طَلَبِ الْعِلْمِ بِطَرَابُلُسِ الشَّامِ، بِسُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي جَعْلِ الْأَزْوَاجِ مَصْدَرَ التَّكْوِينِ الْعَامِّ، وَأَشَارَ إِلَى شَوَاهِدِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ وَمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ مُوَلِّدَاتِ الْفِكْرِ وَالْخَيَالِ فَقَالَ: