وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، وَسَائِرِ مَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ، كَمَا يُفْصَلُ الْوِشَاحُ أَوِ الْعِقْدُ بِالْفَرَائِدِ، فَالْإِحْكَامُ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ مَرْتَبَتَانِ مِنْ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ مُجْتَمِعَتَانِ، لَا نَوْعَانِ مِنْهُ مُتَفَرِّقَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فُصِّلَتْ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، كَمَا تَرَى فِي الْقَصَصِ الْقِصَارَ وَالطِّوَالَ، وَقَدْ أُبْهِمَا بِبِنَاءِ فِعْلَيْهِمَا لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ بُيِّنَا بِجَعْلِهِمَا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِمَا إِلَيْهِ ابْتِدَاءً، أَيْ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ كَامِلِ الْحِكْمَةِ هُوَ الَّذِي أَحْكَمَهَا، وَخَبِيرٍ تَامِّ الْخِبْرَةِ هُوَ الَّذِي فَصَّلَهَا، وَ ((لَدُنْ)) ظَرْفُ مَكَانٍ أَخَصُّ مِنْ ((عِنْدَ)) وَأَبْلَغُ، وَهُوَ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (كَعَضُدٍ) مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ.
هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ، فَإِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَرْفَيِ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ وَجَدْتَ فِيهِ مِنَ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ: (الْأُولَى) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْحَجِّ: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ 22: 52، (وَالثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ ((الْقِتَالِ)) : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ 47: 20 الْآيَةَ. . (وَالثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (3: 7) وَوَجَدْتَ الْإِحْكَامَ فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا. وَقَدْ حَمَلَ الْمُقَلِّدُونَ الْمُحْكَمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمَنْسُوخَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، فَقَالُوا: سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهَذَا الْحَمْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَحِيحًا ; فَإِنَّ هَذَا الِاصْطِلَاحَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ عُرْفِ الْقُرْآنِ، بَلْ وُضِعَ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَالْآيَةُ الْأُولَى حُجَّةٌ عَلَى هَذَا ; فَإِنَّ النَّسْخَ فِيهَا غَيْرُ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لَا كُلُّهَا وَلَا بَعْضُهَا ; لِأَن
َّ
إِنْزَالَ سُورَةٍ مَنْسُوخَةٍ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا مَعْنَى إِذًا لِنَفْيِهِ، وَحَمَلُوهُ فِي الثَّالِثَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُتَشَابَهَ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ فِيهِمَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ اللُّغَةِ وَلِلْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ. قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْأَوَّلِ: الْمُحْكَمُ مَا أُحْكِمَ، الْمُرَادُ بِهِ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ أَيِ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ وَالنَّسْخِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِنَاءٌ مُحْكَمٌ، أَيْ مُتْقَنٌ مَأْمُونُ الِانْتِقَاضِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وَالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمُرَادُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ النَّسْخَ فَهُوَ مُحْكَمٌ، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ التَّأْوِيلَ فَمُفَسَّرٌ، وَإِلَّا فَإِنْ سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُرَادِ فَنَصٌّ، وَإِلَّا فَظَاهِرٌ، وَإِذَا خَفِيَ لِعَارِضٍ أَيْ لِغَيْرِ الصِّيغَةِ فَخَفِيٌّ،