تفسير المنار (صفحة 4636)

بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ شَأْنَهُ فِي النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ مَعَهُ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ وَطُغْيَانِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ؛ لِيَعْتِبَرَ بِهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْقِلُهُ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَسِيرَتِهِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ

الْآيَتَيْنِ بِمِصْدَاقِهِ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ فَقَالَ عَاطِفًا لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الْخِطَابُ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وُجِّهَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى قَوْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ وَطَنِهِ مَكَّةَ إِذْ أُنْزِلَتِ السُّورَةُ فِيهَا، فَهُوَ الْتِفَاتٌ يُفِيدُ مَزِيدَ التَّنْبِيهِ وَتَوْجِيهَ أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَوْضُوعِهِ، وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَهُوَ جَمْعُ قَرَنٍ بِالْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَبَدَأَ هَذِهِ بِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّامِ " وَلَقَدْ " وَصَرَّحَ بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ وُقُوعُ الظُّلْمِ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (18: 59) وَلَمَّا ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (11: 102) وَقَدْ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ دُونَ الْهَمَجِ.

وَإِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِالظُّلْمِ نَوْعَانِ:

(أَحَدُهُمَا) هُوَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ لِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَضَعْفِ الْأُمَمِ، وَلِاسْتِيلَاءِ الْقَوِيَّةِ مِنْهَا عَلَى الضَّعِيفَةِ اسْتِيلَاءً مُوَقَّتًا، إِنْ كَانَ إِفْسَادُ الظُّلْمِ لَهَا عَارِضًا لَمْ يُجْهِزْ عَلَى اسْتِعْدَادِهَا لِلْحَيَاةِ وَاسْتِعَادَتِهَا لِلِاسْتِقْلَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (2: 243) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ دَائِمًا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْحَيَاةِ حَتَّى تَنْقَرِضَ أَوَ تُدْغَمَ فِي الْغَالِبَةِ. كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) (21: 11) الْآيَاتِ - وَهَذَا النَّوْعُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلظُّلْمِ بِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: ظُلْمُ الْأَفْرَادِ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُضْعِفَةِ لِلْأَبْدَانِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَخْلَاقِ، وَظُلْمُ الْحُكَّامِ الَّذِي يُفْسِدُ بَأْسَ الْأُمَّةِ فِي جُمْلَتِهَا وَهَذِهِ السُّنَّةُ دَائِمَةٌ فِي الْأُمَمِ، وَلَهَا حُدُودٌ وَمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَأَحْوَالِ أَعْدَائِهَا، هِيَ آجَالُهَا الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ (49) الْآتِيَةِ وَأَمْثَالِهَا.

(ثَانِيهِمَا) عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلْأَقْوَامِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا رُسُلًا لِهِدَايَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهِ الْعَدْلُ، فَعَانَدُوا الرُّسُلَ، فَأَنْذَرُوهُمْ عَاقِبَةَ

الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ بَعْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015