تفسير المنار (صفحة 4534)

مَا صَوَّرُوا بِهِ اسْتِعْدَادَهُ لِلْوَحْيِ الذَّاتِيَّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَاسْتِمْدَادَهُ لِعُلُومِهِ مِنَ التَّلَقِّي وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ.

(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ تَرْتِيبِ نُزُولِ الْوَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمُجْرَيَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ نَزَلَ مَا بَعْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَقِبَ قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الَّذِي قَالَهُ فِي الْقُرْآنِ - فَقَدْ أَرَادَهُ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَهُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَحَرَّى اسْتِمَاعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُعْجِبَ بِهِ.

قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ لَا بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلَاهُ، مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ.

قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَثَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (74: 11) إِلَخْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ الَّتِي تَصَوَّرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُحَلِّلُونَ لِمَسْأَلَةِ الْوَحْيِ قَلِيلَةُ الْمَوَادِّ، ضَيِّقَةُ النِّطَاقِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِوَحْيِ الْقُرْآنِ.

وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَأَعْلَى وَأَوْسَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِثْلُ بَحِيرَى وَنَسْطُورَ وَكُلِّ نَصَارَى الشَّامِ وَنَصَارَى الْأَرْضِ وَيَهُودِهَا، دَعِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ كَانَ يَمُرُّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّرِيقِ إِلَى الشَّامِ.

وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ وَحْيِ اللهِ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ - وَنَزَلَ أَيْضًا مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا أَيْ رَقِيبًا وَحَاكِمًا كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ (48) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (5) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) (4: 44 و51) وَنَسُوا نَصِيبًا أَوْ حَظًّا آخَرَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا (5: 13، 14) وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى مِمَّا خَالَفُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ الرُّهْبَانِ أَوْ غَيْرِ الرُّهْبَانِ، أَفَاضُوهَا عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَى رِحْلَتِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ

بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمُوسَوِيِّ وَالْعِيسَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ آرْيُوسُ وَأَتْبَاعُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي حَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ الرَّسْمِيَّةُ بِعَدَمِ قَانُونِيَّتِهَا (أَبُو كَرِيفٍ) كَإِنْجِيلِ طُفُولَةِ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا أَمْ لَا، فَمُحَمَّدٌ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015