بِالْغَيْبِ (1) وَأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَلِّغٌ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنْهُ تَعَالَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِثْبَاتَهُ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا مَا فِي بَحْثِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي (ص 181 - 182 ج 1 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَفْسِيرُ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) (4: 163) الْآيَةَ. وَهُوَ فِي (ص 55 وَمَا بَعْدَهَا ج 6 ط الْهَيْئَةِ) . وَمِنْهَا رَدُّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص 258 - 267 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا فِي خُلَاصَتِهِمَا (ص 242 - 247 ج 8 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِمُنَاسَبَةِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (ص 154 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ) وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَسْطُ الْقَوْلِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ، وَشُبْهَةُ النُّفَاةِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ عَلَيْهَا وَتَصْوِيرُهُمْ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ صُورَتِهِ، فَنَعْقِدُ لَهُ الْفَصْلَ التَّالِيَ:
فَصْلٌ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ
(فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
الْكَلَامُ فِي الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ:
أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلِمَ عِلْمًا عَقْلِيًّا وِجْدَانِيًّا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُؤْمِنَ إِيمَانًا عِلْمِيًّا بِأَنَّ تِلْكَ كُتُبُ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَتَبُوهَا أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِيمَا كَتَبُوهُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ فَقِيهٌ أَنْ يُنْكِرَ فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَحْوِيٌّ أَنْ يَجْحَدَ نَحْوَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَلَا شَاعِرٌ أَنْ يَنْفِيَ شَاعِرِيَّةَ الرَّضِيِّ وَالْبُحْتُرِيِّ، بَلْ كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ بَصِيرٌ أَنْ يُكَابِرَ حِسَّهُ فَيُفَضِّلَ نُورَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ السِّرَاجِ عَلَى نُورِ النَّهَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْبُوصِيرِيِّ حَيْثُ قَالَ:
اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا
لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ
طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفِئِ الْقِنْدِيلَا
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ نَشَئُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَاطُوا بِهَا عِلْمًا وَخَبَرًا، ثُمَّ عَرَفُوا الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً وَلَوْ غَيْرَ تَامَّةٍ. وَهَاكَ شَهَادَةً حَدِيثَةً لِعَالِمٍ مُسْتَشْرِقٍ مِنْهُمْ.