وَلَيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَسْرَفُوا فِي أَبْوَابِ الرِّدَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يُحْكَمُ فِيهَا بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَبَنَوْا كَثِيرًا مِنْهُ عَلَى اللَّوَازِمِ الْبَعِيدَةِ، وَالْمُحْتَمِلَةِ لِلتَّأْوِيلَاتِ الْقَرِيبَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّ مَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِفَاقًا لَا يُنَافِي ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْآنَ كُفْرٌ مَحْضٌ لَا تُقْبَلُ مَعَهُ دَعْوَى الْإِيمَانِ، فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، فَكِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمَا الْحُجَّةُ فِي الدِّينِ، وَالِاهْتِدَاءُ بِهِمَا هُوَ الْوَاجِبُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِ كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَا يُنَافِيهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَمِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ احْتِمَالًا ظَاهِرًا جَمِيعُ الْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.
3 - إِنَّ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ فِي الدِّينِ، أَوِ الْخِيَانَةِ لِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ بِمَا هُوَ غَيْرُ صَرِيحٍ، مِمَّا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِحَدٍّ وَلَا تَعْزِيرٍ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَعِظَهُ بِالتَّعْرِيضِ، ثُمَّ بِالتَّصْرِيحِ وَالتَّكْشِيفِ، وَلَهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يُرْجَى أَنْ يَزَعَهُ عَنْ غَيِّهِ مِنَ التَّأْدِيبِ، كَالْحِرْمَانِ مِنْ مَظَاهِرِ التَّشْرِيفِ، أَوِ الْإِزْوِرَارِ وَالتَّقْطِيبِ، أَوِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْنِيفِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (9: 73) وَمِنْهُ حِرْمَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِينِ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى غَزْوَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) (9: 83) الْآيَةَ.
وَلَكِنَّ الْمُلُوكَ الْمُسْتَبِدِّينَ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِمُ الْمُنَافِقِينَ فَيَزِيدُونَهُمْ فَسَادًا، وَيُجَرِّئُونَ غَيْرَهُمْ بَلْ يُرَغِّبُونَهُ فِي النِّفَاقِ وَخِيَانَةِ الْأُمَّةِ جِهَارًا، حَتَّى إِنَّ الْمَنَاصِبَ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ صَارَتْ تُنَالُ بِالنِّفَاقِ، وَيُذَادُ عَنْهَا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
(انْتَهَى بَيَانُ مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ)
(وَكُتِبَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ فِي سَنَةٍ عَسِرَةٍ شَدِيدَةٍ)
(وَتَمَّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 1350)