تفسير المنار (صفحة 4395)

102

إِلَّا وَلَهُمْ فِيهَا أَعْوَانٌ وَأَنْصَارٌ مِنْ أَهْلِهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَخْدِمُونَ أُمَّتَهُمْ وَوَطَنَهُمْ مِنْ طَرِيقِ اسْتِمَالَتِهِمْ وَاسْتِرْضَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَوْلَاهُمْ لَمَا وُفِّقُوا مِنَ الظُّلْمِ وَهَضْمِ الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَدِّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْدِمُونَ الْأَجَانِبَ خِدَمًا خَفِيَّةً لَا تَشْعُرُ بِهَا الْأُمَّةُ لِأَنَّهُمْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْخَوَنَةُ الْخَادِمُونَ لِلْأَجَانِبِ إِلَى نِفَاقٍ، وَتَلْبِيسِ خِيَانَتِهِمْ وَإِخْفَائِهَا بِالْكَذِبِ وَالِاخْتِلَاقِ، إِذَا كَانَ لِلرَّأْيِ الْعَامِّ فِطْنَةٌ وَقُوَّةٌ يَخْشَوْنَهَا، وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا الْجَهْلُ وَالضَّعْفُ فَلَا يُبَالِي الْخَائِنُونَ بِرِضَاءِ أَهْلِهَا وَلَا بِسُخْطِهِمْ.

وَأَشَدُّ الْمُنَافِقِينَ مُرُودًا وَإِتْقَانًا لِلنِّفَاقِ أَعْوَانُ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَشَرُّهُمْ وَأَضَرُّهُمُ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ لِبَاسَ عُلَمَاءِ الدِّينِ.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أَيْ وَثَمَّ آخَرُونَ، أَوْ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أُنَاسٌ آخَرُونَ لَيْسُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ لَا إِسَاءَةَ فِيهِ، بَلْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُذْنِبِينَ: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) أَيْ خَلَطُوا فِي أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ عَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا وَعَمَلًا سَيِّئًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَلَطُوا صَالِحًا بِسَيِّئٍ وَسَيِّئًا بِصَالِحٍ أَوْ خَلَطُوا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُغَلِّبِ الْآخَرَ وَيَنْدَغِمْ فِيهِ، فَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الصَّالِحِينَ الْخُلَّصِ وَلَا مِنَ الْفَاسِقِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَاقْتَرَفُوا بَعْضَ السَّيِّئَاتِ، وَهُمْ أَوْ مِنْهُمْ بَعْضُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ النَّفْرِ وَالْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ كَالضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى وَغَيْرِ الْوَاجِدِينَ، وَلَا اسْتِئْذَانٍ كَاسْتِئْذَانِ الْمُرْتَابِينَ وَلَا اعْتِذَارٍ كَاذِبٍ كَالْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ كَانُوا نَاصِحِينَ لِلَّهِ فِي أَثْنَاءِ قُعُودِهِمْ

شَاعِرِينَ بِذَنْبِهِمْ، خَائِفِينَ مِنْ رَبِّهِمْ، فَكَانَ كُلٌّ مِنْ قُعُودِهِمْ وَنُصْحِهِمْ مُقْتَرِنًا بِالْآخَرِ، كَالَّذِي يَدْخُلُ أَرْضًا مَغْصُوبَةً فَيُصْلِحُ فِيهَا، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ بِدُخُولِهَا وَيَأْتِي بِالْإِصْلَاحِ لِتَكْفِيرِ ذَنْبِ الِاعْتِدَاءِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُكَ: خَلَطَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ بِالسَّيِّئِ، كَمَا تَقُولُ خَلَطَ الْقَمْحَ بِالشَّعِيرِ أَوِ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ ; لِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْخَلْطِ يَصِيرُ فِيهِ الْمَخْلُوطُ وَالْمَخْلُوطُ بِهِ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَلَا يَقُولُ صَاحِبُهُ: عِنْدِي مَاءٌ فُرَاتٌ، وَلَا لَبَنٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ فَقَدْ بَقِيَ فِيهِ كُلُّ نَوْعَيْنِ مُمْتَازًا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا خَلْطُهُ مَعَ الْآخَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَالْوَاوُ الْعَاطِفَةُ هِيَ الَّتِي تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْجَمْعِ، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ بِالْعُدُولِ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ إِلَى الْعَطْفِ.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أَيْ هُمْ مَحَلُّ الرَّجَاءِ لِقَبُولِ اللهِ تَوْبَتَهُمْ، الَّتِي يُشِيرُ إِلَى وُقُوعِهَا اعْتِرَافُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (فِي ص 190 ج 10. ط الْهَيْئَةِ) أَنَّ كَلِمَةَ (عَسَى) وُضِعَتْ لِلتَّقْرِيبِ وَالْإِطْمَاعِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الرَّجَاءِ كَلَعَلَّ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا مِنَ اللهِ لِلْإِيجَابِ - غَيْرُ صَحِيحٍ، أَوْ لِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015