لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِيهِ، فَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ تَوَسُّلًا فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَلَا عَنْ كَوْنِ اسْمِهَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِبَادَةً وَهُوَ مَا كَانَ يُسَمِّيهَا بِهِ أَهْلُ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَإِنَّمَا التَّوَسُّلُ الشَّرْعِيُّ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا بِالْأَهْوَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَا بِالتَّقَالِيدِ الْمُتَّبَعَةِ.
(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ حَالِ الْأَعْرَابِ مُنَافِقِيهِمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَدْ نَزَلَتْ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ بَعْدَ وُصُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهِيَ بَدْءُ سِيَاقٍ جَدِيدٍ فِي تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، بُدِئَ
بِذِكْرِ الْأَعْرَابِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهُ وَفَصْلٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ سِيَاقٌ جَدِيدٌ مَعَ مَا بَعْدَهُ. (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) بَيَانٌ مُسْتَأْنِفٌ لِحَالِ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ; لِأَنَّهُ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ فِي مُنَافِقِي الْحَضَرِ مِنْ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى. فَالْأَعْرَابُ اسْمُ جِنْسٍ لِبَدْوِ الْعَرَبِ، وَاحِدُهُ أَعْرَابِيٌّ، وَالْأُنْثَى أَعْرَابِيَّةٌ، وَالْجَمْعُ أَعَارِيبُ أَوِ الْعَرَبُ اسْمُ جِنْسٍ لِهَذَا الْجِيلِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، بَدْوِهِ وَحَضَرِهِ، وَاحِدُهُ عَرَبِيٌّ. وَقَدْ وَصَفَ الْأَعْرَابَ بِأَمْرَيْنِ اقْتَضَتْهُمَا طَبِيعَةُ الْبَدَاوَةِ (الْأَوَّلُ) أَنَّ كُفَّارَهُمْ وَمُنَافِقِيهِمْ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِنْ أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ. وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ نَفْسِهَا - لِأَنَّهُمْ أَغْلَظُ طِبَاعًا، وَأَقْسَى قُلُوبًا وَأَقَلُّ ذَوْقًا وَآدَابًا - كَدَأْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ بَدْوِ سَائِرِ الْأُمَمِ - بِمَا يَقْضُونَ جُلَّ أَعْمَارِهِمْ فِي رَعْيِ الْأَنْعَامِ وَحِمَايَتِهَا مِنْ ضَوَارِي الْوُحُوشِ وَمِنْ تَعَدِّي أَمْثَالِهِمْ عَلَيْهَا وَعَلَى نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، فَهُمْ