وَاسْتُعْمِلَ ظَرْفًا بِمَعْنَى بَعْدَ وَخَلْفَ. قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَجَلَسْتُ خِلَافَ فُلَانٍ وَخَلْفَهُ أَيْ: بَعْدَهُ، وَمِنْهُ
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (17: 76) وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ وَحَفْصٍ. قَرَأَ الْبَاقُونَ (خَلْفَكَ) اسْتَشْهَدَ اللِّسَانُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ بِبِضْعَةِ شَوَاهِدَ، وَهَاهُنَا يَصِحُّ الْمَعْنَيَانِ.
وَالْمُخَلَّفُونَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ خَلَّفَ فُلَانًا وَرَاءَهُ (بِالتَّشْدِيدِ) إِذَا تَرَكَهُ خَلْفَهُ وَالْمَعْنَى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ - أَيِّ الَّذِينَ تَرَكَهُمُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، بِقُعُودِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ مُخَالِفِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَصَحُّ هُنَا، وَإِنَّمَا فَرِحُوا ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِي الْخُرُوجِ مَعَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا تُذْكَرُ بِجَانِبِهِ رَاحَةُ الْقُعُودِ فِي الْبُيُوتِ شَيْئًا وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أَيْ: قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ فِي النِّفَاقِ لَا تَنْفِرُوا مَعَهُ فِي الْحَرِّ، نَهْيًا لَهُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَإِغْرَاءً بِالثَّبَاتِ عَلَى الْمُنْكَرِ. وَهُوَ عَدَمُ النَّفْرِ، أَوْ قَالُوهُ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِيهِ، وَتَثْبِيطًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ تَفْنِيدًا لِقَوْلِهِمْ وَتَسْفِيهًا لِحُلُومِهِمْ: نَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى لِمَنْ عَصَاهُ وَعَصَى رَسُولَهُ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ فِي أَوَائِلِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، فَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَخِفَّ وَيَزُولَ، عَلَى كَوْنِهِ مِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْجُسُومُ، وَأَمَّا نَارُ جَهَنَّمَ فَحَرُّهَا عَلَى شِدَّتِهِ دَائِمٌ، فَهُوَ يَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ، وَيُنْضِجُ جُلُودَهُمْ، وَيَنْزِعُ شَوَاهُمْ، وَفِي هَذَا أَكْبَرُ عِبْرَةٍ لِمَنْ يَتْرُكُونَ الْجِهَادَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ إِيثَارًا لِلرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ، وَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَالِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَّا الْمُنَافِقُونَ. ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَيْ: لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُونَ بِهِ لَمَا خَالَفُوا وَقَعَدُوا، وَلَمَا فَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ إِذْ أَجْرَمُوا فَقَعَدُوا، بَلْ لَحَزِنُوا وَاكْتَأَبُوا، وَبَكَوْا وَانْتَحَبُوا، كَمَا فَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَرَادُوا الْخُرُوجَ وَالنَّفَقَةَ فَعَجَزُوا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَالِهِمْ قَرِيبًا.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا فِي هَذَا الْأَمْرِ بِقِلَّةِ الضَّحِكِ وَكَثْرَةِ
الْبُكَاءِ وُجُوهٌ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَجْدَرُ بِهِمْ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ حَالُهُمْ، وَتَسْتَوْجِبُهُ جَرِيمَتُهُمْ، لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ مَا فَاتَهُمْ بِالتَّخَلُّفِ وَالْخِلَافِ مِنْ أَجْرٍ، وَمَا سَيَحْمِلُونَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ وِزْرٍ، وَمَا يُلَاقُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ خِزْيٍ وَضُرٍّ، فَهُوَ خَبَرٌ فِي صِيغَةِ أَمْرٍ، نُكْتَتُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى وَاجِبٍ مُقَرَّرٍ. (ثَانِيهَا) أَنَّ هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَنْ يَطِيبَ لَهُمْ فِيهَا عَيْشٌ بَعْدَ أَنْ هَتَكَ الْوَحْيُ أَسْتَارَهُمْ، وَكَشَفَ عَوَارَهُمْ، وَأُمِرَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِمُعَامَلَتِهِمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ نِفَاقُهُمْ، وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ. (ثَالِثُهَا) أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّحِكِ الْقَلِيلِ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْفَضِيحَةِ، وَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ مِنْ مَاضِيهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَبِالْبُكَاءِ الْكَثِيرِ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمْ