رَاسِخٍ فِي الْإِيمَانِ، وَخُشِيَ عَلَيْهِ الِاغْتِرَارُ بِمَظَاهِرِ أُولَئِكَ الْمُخَادِعِينَ الَّذِينَ يَغْتَرُّ بِأَمْثَالِهِمُ الْأَغْرَارُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ; وَلِذَلِكَ ارْتَدَّ بِفِتْنَةِ الْقِبْلَةِ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ.
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)
احْتَجَّ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونِ أَنَّهُ الْحَقُّ) وَقَوْلِهِ: (الَّذِينَ أَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) أَيْ: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا يَأْتِي بِهِ عَنِ اللهِ فَهُوَ حَقٌّ، فَمَا بَالُهُمْ يُشَاغِبُونَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ خَاصَّةً؟ فَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ بَعْدَ إِيرَادِ الدَّعْوَى وَلَيْسَ اعْتِرَاضِيًّا كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ جَاءَ بِحُجَّةٍ أُخْرَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ تُرْغِمُ أُنُوفَ الْمُعَارِضِينَ، وَخَتَمَ بَعْدَهَا الْأَمْرَ بِتَوْلِيَةِ الْوُجُوهِ نَحْوَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَتَأْكِيدِهِ فَقَالَ: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (مَوْلَاهَا) أَيْ: لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وِجْهَةٌ تُوَلِّيهَا فِي صَلَاتِهَا، فَلَمْ تَكُنْ جِهَةٌ مِنَ الْجِهَاتِ قِبْلَةً فِي كُلِّ مِلَّةٍ بِحَيْثُ تُعَدُّ رُكْنًا ثَابِتًا فِي الدِّينِ الْمُطْلَقِ كَتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَإِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ كَانَا يُوَلِّيَانِ الْكَعْبَةَ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْتَقْبِلُونَ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَرَكَ النَّصَارَى ذَلِكَ إِلَى اسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ يَسْتَقْبِلُونَ جِهَاتٍ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ رُكْنًا ثَابِتًا فِي الْأَدْيَانِ فَأَيَّةُ شُبْهَةٍ مِنَ الْعَقْلِ أَوْ مِنْ تَقَالِيدِ الْمِلَلِ عَلَى فِتْنَةِ الْمُشَاغِبِينَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَأَيُّ وَجْهٍ لِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الشُّبْهَةِ وَالْحَيْرَةِ، وَزَجُّوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ مِنَ