تفسير المنار (صفحة 411)

الزَّكَاةَ آيَةٌ حِسِّيَّةٌ عَلَى الْإِيمَانِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَغُشَّ نَفْسَهُ بِهَا إِنْسَانٌ، فَلْيُحَاسِبْ كُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللهِ وَكِتَابِهِ نَفْسَهُ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ بَلِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْفِتْنَةِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْقَلِبُ إِلَى الْكُفْرِ وَيَتْرُكُ الْإِيمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَثْبُتُ عَلَى إِيمَانِهِ عَالِمًا أَنَّ الِاعْتِقَادَ فِي مِثْلِ مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ الْجِهَاتَ فِي نَفْسِهَا مُتَسَاوِيَةٌ لَا فَضْلَ لِجِهَةٍ مِنْهَا عَلَى جِهَةٍ،

بَشَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ بِأَنَّهُمْ يُجْزَوْنَ عَلَى إِيمَانِهِمُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فَلَا يُضِيعُ اللهُ أَجْرَهُمْ، وَلَا يَلِتْهُمْ مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ شَيْئًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْهَمُ هَذَا السِّيَاقَ الْعَجِيبَ، وَمِنْ عَجِيبِ شَأْنِ رُوَاةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ يُمَزِّقُونَ الطَّائِفَةَ الْمُلْتَئِمَةَ مِنَ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ وَيَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ عِضِينَ مُتَفَرِّقَةً، بِمَا يُفَكِّكُونَ الْآيَاتِ وَيَفْصِلُونَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَبِمَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُوثَقَةِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَجْعَلُونَ لِكُلِّ جُمْلَةٍ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا، كَمَا يَجْعَلُونَ لِكُلِّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا، انْظُرْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَجِدُ إِعْجَازَهَا فِي بَلَاغَةِ الْأُسْلُوبِ أَنْ مَهَّدَتْ لِلْأَمْرِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مَا يُشْعِرُ بِهِ فِي ضِمْنِ حِكَايَةِ شُبْهَةِ الْمُعْتَرِضِينَ الَّتِي سَتَقَعُ مِنْهُمْ، وَبِتَوْهِينِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِإِسْنَادِهَا إِلَى السُّفَهَاءِ مِنَ النَّاسِ وَإِيرَادِهَا مُجْمَلَةً، وَبِوَصْلِهَا بِالدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِهَا، وَبِذِكْرِ هِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا الْتِوَاءَ فِيهِ وَلَا اعْوِجَاجَ، وَلَا تَفْرِيطَ عِنْدَ سَالِكِيهِ وَلَا إِفْرَاطَ، وَبِذِكْرِ مَكَانَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِدِينِهَا، وَاعْتِدَالِهَا فِي جَمِيعِ أَمْرِهَا، وَبِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ الْأُولَى قِبْلَةً ثُمَّ التَّحْوِيلِ عَنْهَا، وَبِالتَّلَطُّفِ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا سَيَكُونُ مِنَ ارْتِدَادِ بَعْضِ مَنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ عَنْ دِينِهِمُ افْتِتَانًا بِالتَّحْوِيلِ وَجَهْلًا بِالْأَمْرِ، إِذْ أَوْرَدَ الْخَبَرَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ حَتَّى لَا يَعْظُمَ وَقْعُهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبِبَيَانِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ كَبِيرَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَهِيَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ بِمَعْرِفَةِ دَلَائِلِ الْمَسَائِلِ وَحِكَمِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ بِتَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ الثَّابِتِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِثَابَةِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ.

وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَمَرَهُ بِالتَّحَوُّلِ أَمْرًا صَرِيحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. أَفَيَصِحُّ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ الْمُوثَقِ بَعْضُ جُمَلِهِ وَآيَاتِهِ بِبَعْضٍ أَنْ نَفُكَّ وَثَقَهُ وَيُجْعَلُ نُتَفًا نُتَفًا، وَيُقَالُ: إِنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهُ نَزَلَتْ لِحَادِثَةٍ حَدَثَتْ، أَوْ كَلِمَةٍ قِيلَتْ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَلْبِ الْوَضْعِ، وَجَعْلِ الْأَوَّلِ آخِرًا وَالْآخِرِ أَوَّلًا، وَجَعْلِ آيَاتِ التَّمْهِيدِ مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ عَنْ آيَاتِ الْمَقْصِدِ؟ أَتَسْمَحُ لَنَا اللُّغَةُ وَالدِّينُ بِأَنْ نَجْعَلَ الْقُرْآنَ عِضِينَ ; لِأَجْلِ رِوَايَاتٍ رُوِيَتْ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِسْنَادَ بَعْضِهَا قَوِيٌّ بِحَسَبِ مَا عُرِفَ مِنْ تَارِيخِ الرَّاوِينَ؟ ! (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ عِلَّةِ النَّفْيِ فِي الَّتِي

قَبْلَهَا، وَإِنَّ تَوْفِيَةَ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ أَجْرَهُ هِيَ مِنْ آثَارِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يُخْشَى أَنْ تَتَخَلَّفَ وَأَنْ يَضِيعَ أَجْرُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. قَالَ (الْجَلَالُ) : وَالرَّأْفَةُ شِدَّةُ الرَّحْمَةِ، وَقَدَّمَ الْأَبْلَغَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015