وَتَدْبِيرِهِ، يَقُولُونَ: فَتَحَ الْأَمِيرُ الْبَلَدَ وَقَاتَلَ الْجَيْشَ، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُونَ هَذَا وَالْأَمِيرُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنَ الْعَامِلِينَ، فَهُوَ أُسْلُوبٌ مَعْهُودٌ إِذَا أُرِيدَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْجُمْهُورِ أَسْنَدُوهُ إِلَى الْمُقَدَّمِ فِيهِمْ، وَلَمَّا كَانَ اللهُ تَعَالَى وَلِيَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَخَاطَبَهُمْ خِطَابَ السَّيِّدِ ; صَحَّ بِحَسَبِ هَذَا الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يُذْكَرَ الْفِعْلُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الَّتِي تَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ وَغَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ، فَمَعْنَى (إِلَّا لِنَعْلَمَ) إِلَّا لِيَعْلَمَ عِبَادِي الْمُؤْمِنُونَ بِإِعْلَامِي إِيَّاهُمْ. وَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ مَنْ هُوَ الثَّابِتُ عَلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ هُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي قَلَبَتْهُ رِيحُ الشُّبْهَةِ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِحَيْثُ لَا يُمَازُ أَحَدُهُمْ مِنَ الْآخَرِ ; لِقِيَامِهِمْ جَمِيعًا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الْمَطْلُوبَةِ. وَهَكَذَا كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُمَحِّصُ مَا فِي الْقُلُوبِ بِمَا يَبْتَلِي بِهِ النَّاسَ مِنَ الْفِتَنِ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (29: 2، 3) وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ جَاءَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((يَا عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، وَجُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، وَعَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقِنِي)) خَرَّجُوهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَرِضَ عِبَادِي الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ هُمْ عِيَالُ اللهُ فَلَمْ تَعُدْهُمْ إِلَخْ.
نَعَمْ إِنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْهَا أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا ; لِقَطْعِ الْعَقْلِ
بِأَنَّ هَذَا مُحَالٌ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (51: 57) وَقَالَتِ الْعَرَبُ: إِنِّي جَائِعٌ فِي بَطْنِ غَيْرِي، وَعُرْيَانٌ فِي ظَهْرِ غَيْرِي، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) أَيْ: يُعْطِي عِبَادَهُ الْمُحْتَاجِينَ، وَاللهُ يُكَافِئُهُ عَنْهُمْ إِذْ كَانُوا عَاجِزِينَ.
وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ فِي تَفْسِيرِ (لِنَعْلَمَ) وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِي مِثْلِ هَذَا عِلْمُ الظُّهُورِ وَالْوُقُوعِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا أَنَّهَا سَتَقَعُ لَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ، وَيَعْلَمُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا أَنَّهَا وَقَعَتْ، وَالْجَزَاءُ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، فَقَوْلُهُ هُنَا: (لِنَعْلَمَ) يُرَادُ الثَّانِي ; أَيْ: لِنَعْلَمَ عِلْمَ وُقُوعٍ وَوُجُودٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا التَّجَدُّدُ فِي الْمَعْلُومِ لَا فِي نَفْسِ الْعِلْمِ ; أَيْ: إِنَّ الْمَعْلُومَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ وَظَهَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ جِهَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَّا لِنُحَوِّلَهَا وَنَمْتَحِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحْوِيلِ لِيَظْهَرَ مَا ثَبَتَ فِي الْعِلْمِ الْقَدِيمِ مِنِ اتِّبَاعِ بَعْضِ النَّاسِ لِلرَّسُولِ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى هِدَايَتِهِ، وَانْقِلَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِظْهَارِهِ مَا أَكَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الرَّيْبِ، وَبِذَلِكَ يَمْتَازُ الْمُهْتَدُونَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَتَقُومُ الْحُجَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَمَعْنَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ: هُوَ الِانْصِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْوَرَاءِ وَهُوَ طَرِيقُ الْعَقِبَيْنِ، فَالْمُنْقَلِبُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادُوا إِلَى