تفسير المنار (صفحة 3980)

وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ كَثُرَ فِيهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ إِيجَابِ طَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ، وَالنَّهْيِ عَنْ عِصْيَانِهِ وَخِيَانَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمِنْ عِنَايَتِهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمًا لَهُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

(فِي عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ مِنْ كِفَايَتِهِ وَتَشْرِيفِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِعْمَالِهِ فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُهُ)

وَفِيهِ تِسْعَةُ أُصُولٍ (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) كِفَايَتُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ مَكْرَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِهِ فِي مَكَّةَ وَائْتِمَارَهُمْ لِحَبْسِهِ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ، أَوْ نَفْيِهِ مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ قَتْلِهِ بِتَقْطِيعِ فِتْيَانٍ مِنْ جَمِيعِ بُطُونِ قُرَيْشٍ لَهُ لِإِضَاعَةِ دَمِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هِجْرَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) .

(الْأَصْلُ الثَّانِي) إِحْسَابُ اللهِ تَعَالَى لَهُ - أَيْ كِفَايَتُهُ التَّامَّةُ حَتَّى يَقُولَ " حَسْبِي " - فِي مَوْقِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مُقَيَّدٌ بِحَالٍ " مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ كِفَايَتُهُ خِدَاعَ مَنْ يُرِيدُونَ خِدَاعَهُ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِظْهَارِهِمُ الْجُنُوحَ لِلسَّلْمِ وَتَأْيِيدُهُ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ 62. (وَالثَّانِي) مُطْلَقٌ وَهُوَ كِفَايَتُهُ إِيَّاهُ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِهِمْ - وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ 64.

(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) عِنَايَتُهُ تَعَالَى بِهِ وَتَوْفِيقُهُ إِيَّاهُ لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ وُجُوبِ الطَّاعَةِ وَحَظْرِ الْعِصْيَانِ وَالْخِيَانَةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.

(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) اسْتِعْمَالُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِرَمْيِهِ لِوُجُوهِ الْكُفَّارِ بِبَدْرٍ بِقَبْضَةٍ مِنَ التُّرَابِ وَالرَّمْلِ أَصَابَ اللهُ تَعَالَى بِهَا وُجُوهَهُمْ كُلَّهُمْ وَفِيهَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا رَمَيْتَ

إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (17) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي [ص516 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ] وَكَانَ هَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ كَثِيرَةً، وَهِيَ مِنْ جِنْسِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفَائِدَتُهَا تَقْوِيَةُ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا، وَمَنْ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ نَقْلُهَا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَأَمَّا التَّحَدِّي لِإِقَامَةِ حُجَّةِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَانَتْ خَاصَّةً بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [ص159 - 191 ج 1 ط الْهَيْئَةِ] وَفِي غَيْرِهَا.

(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) امْتِنَاعُ تَعْذِيبِ اللهِ الْمُشْرِكِينَ مَا دَامَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِيهِمْ كَمَا فِي الْآيَةِ 33 وَتَفْسِيرُهَا [ص545 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015