تفسير المنار (صفحة 394)

وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ فَالْعَاصِي يَنْجُو بِصَلَاحِ وَالِدِهِ. وَالْآيَاتُ الَّتِي تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَهِيَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ لَا يُفِيدُ مَعَهَا تَأْوِيلُ الْمَغْرُورِينَ وَلَا غُرُورُ الْجَاهِلِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ حَقِيقَةَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ الْعَرَبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَشْرَكَ مَعَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيْمَانِ بِإِبْرَاهِيمَ وَأَجْدَرُ بِإِجْلَالِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ إِلَى بَيَانِ وَحْدَةِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَاتِّفَاقِ النَّبِيِّينَ فِي جَوْهَرِهِ، وَبَيَانِ جَهْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ، وَقِصَرِ نَظَرِهِمْ عَلَى مَا يَمْتَازُ بِهِ كُلُّ دِينٍ مِنَ الْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، أَوِ التَّقَالِيدِ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَبَعُدَ بِهَا كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْآخَرِ أَشَدَّ الْبُعْدِ، وَصَارَ الدِّينُ الْوَاحِدُ كُفْرًا وَإِيْمَانًا، كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِهِ يَحْتَكِرُ الْإِيْمَانَ لِنَفْسِهِ وَيَرْمِي الْآخَرَ بِالْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِنْ كَانَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدًا وَكِتَابُهُمْ وَاحِدًا.

فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) بَيَانٌ لِعَقِيدَةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، وَالضَّمِيرُ فِي (وَقَالُوا) لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَ (أَوْ) لِلتَّوْزِيعِ أَوِ التَّنْوِيعِ، أَيْ إِنَّ الْيَهُودَ يَدْعُونَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَيَحْصُرُونَ الْهِدَايَةَ فِيهَا، وَالنَّصَارَى يَدْعُونَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَيَحْصُرُونَ الْهِدَايَةَ فِيهَا - وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مَعْهُودٌ فِي اللُّغَةِ - وَلَوْ صدَقَ أَيُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُهْتَدِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَكَيْفَ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَوْنِهِ إِمَامَ الْهُدَى وَالْمُهْتَدِينَ؛ لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - مُلَقِّنًا لِنَبِيِّهِ الْبُرْهَانَ الْأَقْوَى فِي مُحَاجَّتِهِمْ (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ أَوِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي هُدَاهُ وَلَا فِي هَدْيِهِ، فَهِيَ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الْجَادَّةِ بِلَا انْحِرَافٍ وَلَا زَيْغٍ، الْعَرِيقَةُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ بِلَا وَثَنِيَّةٍ وَلَا شِرْكٍ.

وَالْحَنِيفُ فِي اللُّغَةِ: الْمَائِلُ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي عَصْرِهِ كَانُوا عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْكُفْرُ، فَخَالَفَهُمْ كُلَّهُمْ وَتَنَكَّبَ طَرِيقَتَهُمْ، وَلَا يُسَمَّى الْمَائِلُ حَنِيفًا إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَيْلُ عَنِ الْجَادَّةِ الْمُعَبَّدَةِ، وَفِي الْأَسَاسِ: مَنْ مَالَ عَنْ كُلِّ دِينٍ أَعْوَجَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُسْتَقِيمِ، وَبِهِ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ بَعْضُهُمْ، أَوْرَدَ لَهُ شَاهِدًا مِنَ اللُّغَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ. وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ: مَا رُوِيَ مِنْ تَفْسِيرِ الْحَنِيفِ بِالْحَاجِّ وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِهِ أَنَّهُ مِمَّا حُفِظَ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ.

(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : قَالَ بَعْضُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ: إِنَّ الْحَنِيفِيَّةَ هِيَ

مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنَ الشِّرْكِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ بَعْضِ النَّصَارَى فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ: إِنْ فَعَلْتُ هَذَا أَكُونُ حَنِيفِيًّا. وَإِنَّهَا لَفَلْسَفَةٌ جَاءَتْ مِنَ الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ، وَقَدْ نَاظَرْتُ بَعْضَ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا فَلَمْ يَجِدْ مَا يَحْتَجُّ بِهِ إِلَّا عِبَارَةَ ذَلِكَ النَّصْرَانِيِّ، وَهُوَ الْآنَ يَجْمَعُ كُلَّ مَا نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ لِيَنْظُرَ كَيْفَ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا، وَلَا دَلِيلَ فِي كَلِمَةِ النَّصْرَانِيِّ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ لُغَةً عَلَى الشِّرْكِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِكَلِمَتِهِ الْبَرَاءَةُ مِنْ دِينِ الْعَرَبِ مُطْلَقًا؛ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ كَانُوا يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ وَيَنْتَسِبُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يُسَمُّونَهُمُ الْحُنَفَاءَ أَيْضًا، وَالسَّبَبُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالدَّعْوَى أَنَّ سَلَفَهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَقِيقَةً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015