تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مِنْ سُورَتِهَا أَنَّ سُنَّةَ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْقِصَصِ وَالْوَقَائِعِ مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْهُودِ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ مِنْ سَرْدِهَا مُرَتَّبَةً كَمَا وَقَعَتْ، وَأَنَّ
سَبَبَ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّهُ لَا يَقُصُّ قِصَّةً، وَلَا يَسْرُدُ أَخْبَارَ وَاقِعَةٍ; لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ تَارِيخًا مَحْفُوظًا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ; لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَبَيَانِ الْآيَاتِ وَالْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ. بُدِئَتْ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ بِأَمْرِ مُوسَى لِقَوْمِهِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، وَذَكَرَ فِي آخِرِهَا سَبَبَ ذَلِكَ خِلَافًا لِلتَّرْتِيبِ الْمَأْلُوفِ مِنْ تَقْدِيمِ السَّبَبِ عَلَى مُسَبَّبِهِ كَتَقْدِيمِ الْعِلَّةِ عَلَى مَعْلُولِهَا، وَالْمُقَدِّمَاتِ عَلَى نَتِيجَتِهَا. وَلَكِنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ الْبَدِيعَ أَبْلَغُ فِي بَابِهِ كَمَا بُسِطَ هُنَالِكَ.
وَهَاهُنَا بُدِئَتْ قِصَّةُ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى الَّتِي كَانَتْ أَوَّلَ مَظْهَرٍ لِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِدَالَةِ لَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ مُجْرِمِي الْمُشْرِكِينَ، بِذِكْرِ حُكْمِ الْغَنَائِمِ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ - وَيَالَهَا مِنْ بَرَاعَةِ مَطْلَعٍ - مَقْرُونًا بِبَيَانِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ النَّصْرَ كَمَا وَعَدَ النَّبِيِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ حُكْمَ اللهِ وَقِسْمَةَ رَسُولِهِ فِي الْغَنَائِمِ - وَيَالَهَا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ لِلْفَوْزِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا - ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ أَوَّلِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَرَاهَةُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِخُرُوجِهِ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْإِذْعَانِ لِطَاعَتِهِ، وَالرِّضَاءِ بِمَا يَفْعَلُهُ بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَمَا يَحْكُمُ أَوْ يَأْمُرُ بِهِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَعَلَّ بَيَانَ هَذَا الشَّرْطِ، وَمَا وَلِيَهُ مِنْ بَيَانِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّ الْإِيمَانِ هُوَ أَهَمُّ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى كَثْرَةِ أَحْكَامِهَا وَحِكَمِهَا وَفَوَائِدِهَا الرُّوحِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ أَيْ: إِنَّ الْأَنْفَالَ لِلَّهِ يَحْكُمُ فِيهَا بِالْحَقِّ، وَلِرَسُولِهِ يُقَسِّمُهَا بَيْنَ مَنْ جَعَلَ اللهُ لَهُمُ الْحَقَّ فِيهَا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا، وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا، فَهِيَ كَإِخْرَاجِ رَبِّكَ إِيَّاكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ لِلِقَاءِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الظَّاهِرِ، وَكَوْنِ تِلْكَ الطَّائِفَةِ هِيَ الْمُقَاتِلَةُ فِي الْوَاقِعِ، وَالْحَالُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ لِذَلِكَ; لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْقِتَالِ، أَوْ لَهُ، وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
هَذَا مَا أَرَاهُ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ، وَقَدْ رَاجَعْتُ بَعْضَ كُتُبِ التَّفْسِيرِ فَرَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا بِضْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا أَكْثَرُهَا مُتَكَلَّفٌ، وَبَعْضُهَا قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ هَذَا أَقْرَبُ، وَقَدْ بَسَطَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَبْنِيًّا عَلَى قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ.
وَلَا يَظْهَرُ الْمَعْنَى تَمَامَ الظُّهُورِ فِي الْآيَاتِ إِلَّا بِبَيَانِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَجْمَعُهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي