وَرُجْحَانِ مَوَازِينِ السَّائِدِينَ عَلَيْهَا فِي الْقُوَى الْمَادِّيَّةِ وَالْآلِيَّةِ، وَاسْتِذْلَالِ هَؤُلَاءِ السَّائِدِينَ عَلَيْهَا لَهَا، جَهْلًا مِنْهَا بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي بَيَّنَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَغَفْلَتَهَا عَنْ كَوْنِ رُجْحَانِ قُوَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَهْرِهِ لَهُمْ كَانَا فَوْقَ رُجْحَانِ قُوَى سَائِدِيهَا عَلَيْهَا وَقَهْرِهِمْ إِيَّاهَا، وَفِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْعِبَرِ التَّارِيخِيَّةِ بِسُقُوطِ بَعْضِ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ مَا لَا يَقِلُّ عَنِ الْعِبْرَةِ بِأَحْدَاثِ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِتِلْكَ الْآيَةِ (129) أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَكَا لَهُ قَوْمُهُ إِيذَاءَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لَهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِ وَبَعْدَهُ عَلَى سَوَاءٍ، فَذَكَرَ لَهُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِإِهْلَاكِ رَبِّهِمْ لِعَدُوِّهِمْ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ الْمَوْعُودِينَ بِهَا; لِيَخْتَبِرَهُمْ فَيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ، وَيَكُونُ ثَبَاتُ مُلْكِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِمُ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْأَرْضُ وَأَهْلُهَا أَوْ تَفْسُدُ. وَهُوَ مَا فَصَّلَهُ تَعَالَى لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا فِي إِفْسَادِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ (17: 4) إِلَى تَتِمَّةِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ 137 مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُ أَوْرَثَهُمُ الْأَرْضَ الْمُبَارَكَةَ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُهُ الْحُسْنَى عَلَيْهِمْ بِمَا صَبَرُوا، أَيْ لَا بِمُجَرَّدِ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى، وَمَا أَيَّدَهُ بِهِ، فَعُلِمَ مِنْهُ بِالْفِعْلِ أَنَّ الْأُمَّةَ الْمُسْتَضْعَفَةَ مَهْمَا يَكُنْ عَدُوُّهَا الظَّالِمُ لَهَا قَوِيًّا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِرَجَاءِ مُوسَى هُنَا، وَلِوَعْدِ اللهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ (28: 5، 6) الْآيَةَ.
تَرَى شُعُوبَ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ السُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ، وَمَا ضَاعَ مُلْكُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا بِجَهْلِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي الْعَمَلِ، وَمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الْجَهْلِ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَدَعْوَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ هِدَايَتِهِ بِمَا كَتَبَهُ لَهُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَمَا كَتَبَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْحَرْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَهَذِهِ السُّورَةُ الْجَلِيلَةُ الْكَبِيرَةُ الْقَدْرِ وَالْفَوَائِدِ (الْأَعْرَافُ) خَالِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، وَمِنْ نَظَرِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعَقَائِدِ وَتَقْرِيرِهِمْ لَهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. فَهَلْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّوَرَ كُلَّهَا لِلتَّعَبُّدِ بِتَجْوِيدِ أَلْفَاظِهَا بِدُونِ فَهْمٍ، أَوْ لِاتِّخَاذِهَا رُقًى وَتَمَائِمَ، وَكَسْبًا لِقُرَّاءِ الْمَآتِمِ؟ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْجَهْلَ بَلَغَ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ فَرِيقٌ خَصْمٌ لِهَذَا الْفَرِيقِ الْمُقَلِّدِ الْمُحَافِظِ عَلَى كُتُبِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى دُونَ هَدْيِ السَّلَفِ، خَصْمٌ يَقُولُ: إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ السَّبَبُ فِي جَهْلِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ، وَلَا حَيَاةَ لَنَا إِلَّا بِاقْتِبَاسِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ الْعُمْرَانِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي سَادَتْنَا بِهَذِهِ الْعُلُومِ، وَمَا يُؤَيِّدُهَا مِنَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ، وَهَؤُلَاءِ