تفسير المنار (صفحة 3696)

184

مُطَّرِدٌ، وَأَمَّا عَذَابُ الْأَفْرَادِ فَقَدْ يَتَخَلَّفُ وَيُرْجَأُ إِلَى الْآخِرَةِ. وَحَقَّقْنَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَنَّ عِقَابَ الْأُمَمِ وَبَعْضَ عِقَابِ الْأَفْرَادِ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِذُنُوبِهِمْ، فَالْأُمَمُ وَالشُّعُوبُ الْبَاغِيَةُ الظَّالِمَةُ لَا بُدَّ أَنْ يَزُولَ سُلْطَانُهَا وَتَدُولَ دَوْلَتُهَا، وَالسِّكِّيرُ وَالزَّنَّاءُ لَا يَسْلَمَانِ مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي سَبَّبَهَا السُّكْرُ وَالزِّنَا، وَالْمُقَامِرُ قَلَّمَا يَمُوتُ إِلَّا فَقِيرًا مُعْدَمًا إِلَخْ.

وَقَدْ سَرَدْنَا الشَّوَاهِدَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى عَلَى عِقَابِ الْأُمَمِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي صَدَّقَتْهَا شَوَاهِدُ التَّارِيخِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، وَسَتُصَدِّقُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا كَانَتِ الْحَرْبُ الْأَخِيرَةُ الْعُظْمَى إِلَّا بَعْضَ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى لِلَّذِينِ صُلُوا نَارَهَا بِبَغْيِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ، وَسَيَرَوْنَ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا إِذَا لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ غَيِّهِمْ.

بَعْدَ هَذَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْ أَكْبَرِ شُبْهَةٍ لَهُمْ عَلَى الرِّسَالَةِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الْجِنَّةُ بِالْكَسْرِ النَّوْعُ الْخَاصُّ مِنَ الْجُنُونِ، فَهُوَ اسْمُ هَيْئَةٍ، وَاسْمٌ لِلْجِنِّ أَيْضًا، وَلَا يَصِحُّ هُنَا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ مَسِّ جِنَّةٍ - وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَوَّلِ رُسُلِهِ إِلَى قَوْمٍ مُشْرِكِينَ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ بِالْجُنُونِ فَقَالُوا بَعْدَ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (23: 25) وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ عَنْهُمْ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (54: 9) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللهُ - فِي مُوسَى صَلَّى الله عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (26: 27) وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (51: 39) ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ فِي رُسُلِهِمْ فَقَالَ: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (51: 52، 53) .

وَفِي مَعْنَى آيَةِ الْأَعْرَافِ فِي خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ عِدَّةُ آيَاتٍ (مِنْهَا) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ

آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (23: 68 - 70) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَافْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (34: 7، 8) ثُمَّ قَالَ فِيهَا: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكُّروا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (34: 46) وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِآيَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015