وَقَدِ اخْتَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ، وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ: لَكِنْ إِنْ شَاءَ رَبِّي أَنْ يُصِيبَنِي فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ مِنْ قِبَلِ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ كَوُقُوعِ صَنَمٍ عَلَيَّ يَشُجُّنِي، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِقُدْرَتِهِ تَنْفِيذًا لِمَشِيئَتِهِ، لَا بِقُدْرَةِ شُرَكَائِكُمْ وَلَا بِمَشِيئَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ وَلَا مَشِيئَةَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا عَلَّلَهُ بِهِ بَعْدَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ فَقَالَ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَيْ: وَمَعْبُودَاتُكُمْ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا إِلَخْ، وَاخْتَرْنَا هُنَا جَعْلَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ لَا الْأَوْقَاتِ، وَإِنْ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا شَأْنَ لَهُ هُنَا، عَلَى أَنَّ عُمُومَ الْأَحْوَالِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَوْقَاتِ.
ثُمَّ أَكَّدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا أَيْ: إِلَيْهِ وَحْدَهُ وَكَّلْنَا أَمَرْنَا مَعَ قِيَامِنَا بِكُلِّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْنَا مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ لَنَا، فَهُوَ يَكْفِينَا أَمْرَ تَهْدِيدِكُمْ، وَكُلَّ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي اسْتِطَاعَتِنَا مِنْ جِهَادِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي يَعْرِفُهَا جَمِيعُ رُسُلِهِ أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ (65: 3) وَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْكِيلِ الصَّحِيحِ فِي الْأَمْرِ الْقِيَامَ بِكُلِّ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمُرَاعَاةَ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَمَنْ يَتْرُكِ الْعَمَلَ بِالْأَسْبَابِ فَهُوَ جَاهِلٌ مَغْرُورٌ، لَا مُتَوَكِّلٌ مَنْصُورٌ وَلَا مَأْجُورٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَنْ سَأَلَهُ أَيَتْرُكُ نَاقَتَهُ سَائِبَةً، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى؟ : اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بَعْدَ أَمْرِهِ بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (3: 159) وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَزْمُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَمِنْهَا مُظَاهَرَتُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَئِذٍ بِلِبْسِ دِرْعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَدَأَ جَوَابَهُ لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ وَإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٌ عَلَى إِجْبَارِهِمْ عَلَيْهِ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُرِيدُهُ، وَثَنَى بِبَيَانِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى الَّذِي يَكْفِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ مَا أَهَمَّهُ، وَهُوَ فَوْقَ كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَتَجْتَمِعُ لَهُ الْعِنَايَةُ الْكَسْبِيَّةُ وَالْوَهْبِيَّةُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالدُّعَاءِ الَّذِي لَا يَكُونُ شَرْعِيًّا مَرْجُوَّ الْإِجَابَةِ إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ بِمَا فِي الطَّاقَةِ مِنَ الْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَالتَّوَكُّلِ الْقَلْبِيِّ، فَقَالَ: