فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرُّسُلَ رِجَالٌ مِنَ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ لَيْسُوا أَرْبَابًا وَلَا شُرَكَاءَ لِرَبِّ الْعِبَادِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ. وَلَا فِي تَصَرُّفِهِ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ. فَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا إِيمَانًا وَلَا رَشَدًا، بَلْ هُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَسَائِرِ عِبَادِهِ، وَلَكِنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَاخْتَصَّهُمْ بِعِلْمٍ أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِأَقْوَامِهِمْ لِيَهْتَدِيَ بِهِ الْمُسْتَعِدُّ مِنْهُمْ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقَّ الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ وَالْمُعَانِدِينَ: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (8: 42) . وَقَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ مَا يُؤَيِّدُهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ وَلَا مِنْ مَقْدُورِهِمْ لِأَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِمْ كَسُنَّتِهِ فِي سَائِرِ الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِلْمِهِمْ كَذَلِكَ. فَلَا الْوَحْيُ الَّذِي اخْتَصَّهُمْ بِهِ مِنْ كَسْبِهِمْ وَاسْتِنْتَاجِ عُقُولِهِمْ، وَلَا الْآيَاتُ الْمُثْبِتَةُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ. تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ الرُّسُلِ: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (35) وَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 318 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) .
وَتَأَمَّلْ أَمْرَهُ إِيَّاهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزَائِنُ اللهِ وَلَا عِلْمُ الْغَيْبِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَلَكًا، وَحَصَرَ خُصُوصِيَّتَهُ بِاتِّبَاعِ وَحْيِ رَبِّهِ فِي الْآيَةِ (50) الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَأَمْرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِالْإِنْذَارِ، ثُمَّ تَدَبَّرْ بَعْدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَمَا أَمَرَهُ فِي شَأْنِ مُعَامَلَةِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَاتِ (51 - 55) وَقَارِنْ فِيهَا بَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ 35: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وَقَوْلِهِ فِي آيَةِ 52: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) تَعْلَمِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمَقَامِ عُبُودِيَّةِ النُّبُوَّةِ، وَيُقَابِلُ هَذَا النَّهْيَ عَنْ طَرْدِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِجَابَةً لِاقْتِرَاحِ الْأَغْنِيَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) (70) إِلَخْ. وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ.
الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ
ذُكِرَتْ آيَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَارَةً خَبَرًا مُجَرَّدًا مُؤَكَّدًا كَقَوْلِهِ: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (129 وَقَوْلِهِ: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (134) أَوْ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّوْكِيدِ فِي السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) (36) وَكَفَى بِالِاسْتِنَادِ إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اسْتِغْنَاءً عَنِ التَّوْكِيدِ. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) (164) . وَالْأُسْلُوبُ الْغَالِبُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِيرَادُهَا فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الْجَزَاءِ