لِلنَّاسِ، وَبِأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ، وَبِأَنَّهُ صِدْقٌ وَعَدْلٌ، وَبِأَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَدِينٌ قَيِّمٌ. وَأَثْبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ نَفْسَهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَالْمُهْتَدِينَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) (5) وَقَالَ: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) (66) وَقَالَ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (114) وَقَالَ: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (57) وَالْحَقُّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ وَلَا إِبْطَالُهُ - فَبِهَذَا الْوَصْفِ يُنَبِّهُ الْعُقَلَاءَ إِلَى أَنْ يَبْحَثُوا عَنْ حَقِّيَّتِهِ بِفِكْرٍ مُسْتَقِلٍّ وَبِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ لِيَصِلُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَهِيَ غَايَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُنْصِفُ الْبَرِيءُ مِنَ الْأَهْوَاءِ فِي نَظَرِهِ، وَمِنْ قُيُودِ التَّقْلِيدِ فِي طَلَبِهِ لِلْحَقِّ. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ فُصِّلَتْ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (41: 53) كَذَلِكَ كَانَ وَهَكَذَا يَكُونُ.
وَقَالَ: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (104) وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ الْإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ كَالْبَصَرِ فِي إِدْرَاكِ الْحِسِّ فَتُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَعَلَى الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ. وَفِي مَعْنَاهُ وَصْفُ الْوَحْيِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (7: 203) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (45: 20) وَأَمَرَ رَسُولَهُ فِي أَوَاخِرَ سُورَةِ يُوسُفَ بِأَنْ يَقُولَ: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (12: 108) وَيُؤَيِّدُ هَذَا كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ
مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَمُخَاطَبَةِ الْعَقْلِ. وَكَانَ أَصْحَابُ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ وَالْأَدْيَانِ الْمُبْتَدَعَةِ قَدْ بَعُدُوا عَنِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَاعْتَمَدُوا فِي الدَّعْوَةِ وَتَلْقِينِ الدِّينِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى.
وَوَصَفَ الْقُرْآنَ فِي آيَةِ 155 بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ، أَيْ جَامِعٌ لِأَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ النَّامِيَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةِ 157: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) وَقَالَ: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا) (161) وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا الدِّينُ مِنْ غَيْرِ عَائِقٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، وَالْقَيِّمُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ بِهِ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ حَتَّى لَا يَفُوتَ صَاحِبَهُ. وَقَالَ: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) (195) أَيْ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ. فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ الْآيَاتِ فِي بَيَانِ صِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الدَّعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ وَعَطْفِ النَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ الْبَدِيعِ الصُّنْعِ الْبَالِغِ مُنْتَهَى الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ الَّذِي يُدْرَكُ جَمَالُهُ وَكَمَالُهُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَيْهِ. لَعَمْرِي إِنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ مُسْتَقِلَّ الْفِكْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُثْبِتُ بِهِ كَوْنَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ حَقًّا وَصِدْقًا وَعَدْلًا وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَقَدْ أَثْبَتَتِ الْوَقَائِعُ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ لِإِدْرَاكِ حَقِّيَّةِ مَوْضُوعِهَا وَخَيْرِيَّتِهِ كَانُوا