آخَرَ يَتَّصِلُ بِهَا اتِّصَالًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا، كَالْأُمُورِ الَّتِي يَشْتَبِهُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تُعَدَّ كَأَنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْجِنْسِ، إِذْ أَزَلْتَ مَا بِهِ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَهَا بِمَا يَمْتَازُ بِهِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَجَعَلْتَهَا أَنْوَاعًا تَكُونُ قَدْ فَصَّلْتَ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْجِنْسِ وَأَبَنْتَهُ مِنَ الْآخَرِ. وَتَكْرِيرُ الْفَصْلِ هُوَ التَّفْصِيلُ. وَقَوْلُهُ: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا حَرَّمَهُ، فَمَتَى وَقَعَتِ الضَّرُورَةُ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الطَّعَامِ عِنْدَ شِدَّةِ الْجُوعِ إِلَّا الْمُحَرَّمُ زَالَ التَّحْرِيمُ. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ فِي يُسْرِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَيُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ مَا تَزُولُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَيُتَّقَى الْهَلَاكُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحْرِيمِ الْمُفَصَّلَةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِمَّا يَذْبَحُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى النُّصُبِ وَيُهِلُّونَ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، بَلْ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا يَتْرُكُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا يَفْطِنُ لِقُبْحِهَا خَوَاصُّ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فَيَتَنَزَّهُونَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ ; وَلِذَلِكَ بُيِّنَتْ بِمَا تَرَى مِنَ الْإِسْهَابِ وَالْإِطْنَابِ.
قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ غَيْرَ حَفْصٍ " فَصَّلَ " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَ " حُرِّمَ " بِضَمِّ الْحَاءِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَفَصٌ وَيَعْقُوبُ وَسَهْلٌ الْفِعْلَيْنِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا وَقَرَأَهُمَا الْبَاقُونَ بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا هِيَ تَوْسِعَةٌ فِي اللَّفْظِ.
(وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضِلُّونَ (بضم الياء) وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْأُولَى أَبْلَغُ، وَفَائِدَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ بَيَانُ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ بِالْإِيجَازِ الْعَجِيبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنَ الثَّابِتِ الْقَطْعِيِّ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ كَمَا ضَلُّوا فِي مِثْلِ أَكْلِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ بِذِكْرِ اسْمِ ذَلِكَ الْغَيْرِ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ أَوْ وَثَنٍ وُضِعَ لِتَعْظِيمِهِ
وَالتَّذْكِيرِ بِهِ، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَضِلُّ فِي ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بِإِضْلَالِ غَيْرِهِ وَلَا يَتَصَدَّى لِإِضْلَالِ أَحَدٍ فِيهِ لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِضْلَالِ أَوْ لِفَقْدِ الدَّاعِيَةِ، وَكُلٌّ مِنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ وَاقِعٌ بِأَهْوَاءِ أَهْلِهِ لَا بِعِلْمٍ مُقْتَبَسٍ مِنَ الْوَحْيِ، وَلَا مُسْتَنْبَطٍ بِحُجَجِ الْعَقْلِ.
وَمَهَبُّ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ مَا كَانَ سَبَبَ الْوَثَنِيَّةِ وَأَصْلَهَا، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ نَبِيَّهُ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رِجَالٌ صَالِحُونَ عَلَى دِينِ الْفِطْرَةِ الْقَدِيمِ، فَلَمَّا مَاتُوا وَضَعُوا لَهُمْ أَنْصَابًا تُمَثِّلُهُمْ لِيَتَذَكَّرُوهُمْ بِهَا وَيَقْتَدُوا بِهِمْ، ثُمَّ صَارُوا يُكْرِمُونَهَا لِأَجْلِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ أُنَاسٌ جَهِلُوا حِكْمَةَ وَضْعِهِمْ لَهَا، وَإِنَّمَا حَفِظُوا عَنْهُمْ تَعْظِيمَهَا وَتَكْرِيمَهَا وَالتَّبَرُّكَ بِهَا تَدَيُّنًا وَتَوَسُّلًا إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً لَهَا. وَتَسَلْسَلَ فِي الْأُمَمِ بَعْدَهُمْ، فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ - كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - يَبْنِي الْمُضِلُّونَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي عَبَدُوا بِهَا غَيْرَ اللهِ تَعَالَى، كَالتَّوَسُّلِ بِهِ وَدُعَائِهِ وَطَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ