وَالْجِنِّ، فَشَيَاطِينُ بَيَانٌ لِـ (عَدُوًّا) أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَعْدَاءً لِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى. ذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ يُضِلُّونَ الْإِنْسَ بِالْوَسْوَسَةِ لَهُمْ، وَبِشَيَاطِينِ الْجِنِّ الَّذِينَ يُضِلُّونَ الْجِنَّ كَذَلِكَ، وَكُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِنْسِ شَيَاطِينُ. وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) (2: 14) الْآيَةَ. وَالصَّوَابُ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ وَمِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ عَقِبَ صَلَاةٍ " يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ - قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَهُوَ شَيْطَانٌ.
وَمَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ مَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ الشِّرِّيرُ الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي عَنِ الْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ، أَيِ الَّذِي لَا يَنْقَادُ لَهُمَا كِبْرًا وَعِنَادًا وَجُمُودًا عَلَى مَا تَعَوَّدَ، يَكُونُ عَدُوًّا لِلدُّعَاةِ إِلَيْهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِنْ وَرِثَتِهِمْ وَنَاشِرِي هِدَايَتِهِمْ. وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ ضِدَّيْنِ يَدْعُو أَحَدُهُمَا إِلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْآخَرُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَنَافِعِهِمُ
الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا خَيِّرًا مُحِقًّا نُسِبَتِ الْعَدَاوَةُ إِلَى الْآخَرِ الشِّرِّيرِ الْمُبْطِلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى إِلَى إِيذَاءِ مُخَالِفِهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ يَسْتَطِيعُهَا لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخَيْرَ لَهُ. وَلَيْسَ كُلُّ مُخَالِفٍ مُبْطِلٍ عَدُوًّا يَسْعَى جَهْدَهُ لِإِيذَاءِ مُخَالِفِهِ الْمُحِقِّ وَإِنَّمَا يَتَصَدَّى لِذَلِكَ الْعُتَاةُ الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُحِبُّونَ لِلشُّهْرَةِ وَالزَّعَامَةِ بِالْبَاطِلِ وَالْمُتْرَفُونَ الَّذِينَ يَخَافُونَ عَلَى نَعِيمِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ كَافِرٍ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ نَاصِبًا نَفْسَهُ لِعَدَاوَتِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُمْ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الْعُتَاةُ الْمُتَمَرِّدُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمُتْرَفِينَ وَالْقُسَاةِ الَّذِينَ ضُرِبَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْعُدْوَانِ وَالْبَغْيِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الشَّيَاطِينُ الْمُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ جِنْسِ الْإِنْسِ الظَّاهِرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ الْخَفِيِّ، وَحِكْمَةُ عَدَاوَةِ الْأَشْرَارِ لِلْأَخْيَارِ هِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ بِسُنَّةِ تَنَازُعِ الْبَقَاءِ بَيْنَ الْمُتَقَابِلَاتِ الَّتِي تُفْضِي بِالْجِهَادِ وَالتَّمْحِيصِ إِلَى مَا يُسَمُّونَهُ (سُنَّةَ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ) أَيِ انْتِصَارُ الْحَقِّ وَبَقَاءُ الْأَمْثَلِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْمَثَلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ) (13: 17) فَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا جِهَادٌ لَا يَكْمُلُ وَيَثْبُتُ فِيهَا إِلَّا الْمُجَاهِدُونَ الصَّابِرُونَ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِيهَا لِلْآخِرَةِ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (2: 142) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (2: 214)