تفسير المنار (صفحة 2595)

وَهُمْ لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْكَ كَذِبًا عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِكَ بِإِنْكَارِهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ، كَمَا جَحَدَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ لِأَخِيكَ مُوسَى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (27: 14) .

فَالْجُحُودُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: نَفْيُ مَا فِي الْقَلْبِ إِثْبَاتُهُ وَإِثْبَاتُ مَا فِي الْقَلْبِ نَفْيُهُ. يُقَالُ: جَحَدَ جُحُودًا وَجَحْدًا. اهـ. وَعِبَارَةُ اللِّسَانِ الْجَحْدُ، وَالْجُحُودُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ كَالْإِنْكَارِ، ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ الْجَوْهَرِيِّ فِيهِ أَنَّهُ الْإِنْكَارُ مَعَ الْعِلْمِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ فَيُقَالُ: جَحَدَهُ وَجَحَدَ بِهِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ:

" يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) أَيْ وَقَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِتَكْذِيبِهِمْ لَكَ وَحُزْنِكَ وَتَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (35: 8) كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (26: 3) - (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (18: 6) وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أَيْ: لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ

يَجْحَدُونَ، أَيْ: وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الْوَاسِطِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُبَشِّرِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟ فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟ وَتَلَا أَبُو يَزِيدَ: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ وَيَجْحَدُونَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزَّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ جَاءَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ اللَّيْلِ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ: فَاسْتَمَعُوهَا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا هَجَمَ الصُّبْحُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ مَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا؛ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ عِلْمِ شُبَّانِ قُرَيْشٍ بِهِمْ لِئَلَّا يُفْتَنُوا بِمَجِيئِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَنًّا أَنَّ صَاحِبَيْهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015