الْمُتَكَلِّمِينَ وَفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكَلَامِ عَنِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِهَا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْآلُوسِيِّ فَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، فَإِنَّ لَقَبَ " الْإِمَامِ " إِذَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِ مَنْ بَعْدَ الرَّازِيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْمَنْطِقِيِّينَ فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ. وَفِي فَتْحِ الْبَيَانِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ السُّورَةُ أَصْلٌ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْزَالَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُولَ الدِّينِ اهـ.
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا:
مَنْ نَظَرَ تَرْتِيبَ السُّوَرِ كُلِّهَا فِي الْمُصْحَفِ يَرَى أَنَّهُ قَدْ رُوعِيَ فِي تَرْتِيبِهَا الطُّولُ وَالتَّوَسُّطُ وَالْقِصَرُ فِي الْجُمْلَةِ، وَمِنْ حِكْمَتِهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى تِلَاوَتِهِ وَحِفْظِهِ، فَالنَّاسُ يَبْدَءُونَ بِقِرَاءَتِهِ مِنْ أَوَّلِهِ فَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ إِلَى الْمِئِينَ فَالْمَثَانِي فَالْمُفَصَّلِ أَنْفَى لِلْمَلَلِ وَأَدْعَى إِلَى النَّشَاطِ، وَيَبْدَءُونَ بِحِفْظِهِ مِنْ آخِرِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَلَكِنْ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنَ الطِّوَالِ وَالْمِئِينَ وَالْمُفَصَّلِ تَقْدِيمًا لِسُوَرٍ قَصِيرَةٍ عَلَى سُورٍ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ إِنَّهُ قَدْ رُوعِيَ التَّنَاسُبُ فِي مَعَانِي السُّوَرِ، مَعَ التَّنَاسُبِ فِي الصُّوَرِ، أَيْ مِقْدَارِ الطُّولِ وَالْقِصَرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ أَرْبَعٌ السُّوَرُ الطُّولَى، وَهِيَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ الَّتِي لَا يُرَاعَى مُنَاسَبَتُهَا لِمَا بَعْدَهَا وَحْدَهُ; إِذْ هِيَ فَاتِحَةُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَهَذِهِ السُّوَرُ الْأَرْبَعُ مَدَنِيَّةٌ وَبَيْنَهَا مِنَ التَّنَاسُبِ فِي التَّرْتِيبِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُنَّ سُورَتَا الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ الْمَكِّيَّتَانِ، وَبَعْدَهُمَا سُورَتَا الْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ الْمَدَنِيِّتَانِ، وَيَقَعَانِ فِي أَوَائِلِ الرُّبُعِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا بَعْدَهُمَا مِنْ سُوَرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ كُلُّهُ مَكِّيٌّ، وَسُوَرُ الرُّبُعِ الثَّالِثِ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ أَيْضًا إِلَّا سُورَةَ النُّورِ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَإِلَّا سُورَةَ الْحَجِّ فَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَالتَّحْقِيقُ إِنَّهَا مُخْتَلِطَةٌ، وَأَمَّا الرُّبُعُ الرَّابِعُ فَهُوَ مُخْتَلِطٌ وَأَكْثَرُهُ سُوَرُ الْمُفَصَّلِ الَّتِي تُقْرَأُ كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي بَيَانُ مُنَاسِبَةِ جَعْلِ سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ الْمَدَنِيَّةِ الْأُولَى وَقَبْلَ السُّورَتَيْنِ الْمَدَنِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهُمَا ثُمَّ مُنَاسِبَةِ الْأَنْعَامِ لِلْمَائِدَةِ خَاصَّةً.
سُورَةُ الْبَقَرَةِ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ، فَفِيهَا بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَبَيَانُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَبَيَانُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي دَعْوَةِ الْقُرْآنِ، وَمُحَاجَّةِ الْجَمِيعِ وَبَيَانُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ