أَحْكَامُ السُّورَةِ الْخَاصَّةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ:
لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ لَشَرَعَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ نَاصَبُوا الْإِسْلَامَ بِالْعَدَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِأَشَدِّ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَاهَا. وَلَكِنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، أَمَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بِمُعَامَلَتِهِمْ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَحَكَمَ بِحِلِّ مُؤَاكَلَتِهِمْ، وَتَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ، وَقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي شَرَعَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ الْفُضْلَى لَهُمْ نَزَلَتْ بَعْدَ إِظْهَارِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مُنْتَهَى الْعَدَاوَةِ وَالْغَدْرِ، وَبَعْدَ أَنْ نَاصَبُوهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ الْحَرْبَ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَأْلِيفَ قُلُوبِهِمْ، وَاكْتِسَابَ مَوَدَّتِهِمْ [رَاجِعْ ص 161، 162 ج 6 ط الْهَيْئَةِ] .
وَقَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى السُّورَةَ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يُنَاسِبُ أَحْكَامَهَا كُلَّهَا،
كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ آيَةٍ مِنْهَا.
رَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ والْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ " حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ والْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ " آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ السُّوَرِ بِرُمَّتِهَا وَمِنَ الْآيَاتِ، وَكَانَ كُلٌّ يَرْوِي مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ) .
(يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ قَدْ وَفَّقَنِي اللهُ تَعَالَى لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَبِيعِ الْآخَرِ سَنَةَ 1334 هـ وَكُنْتُ بَدَأْتُ بِتَفْسِيرِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الشَّهْرِ مِنْ سَنَةِ 1331 وَسَبَبُ هَذَا الْبُطْءِ أَنَّنِي أَكْتُبُ التَّفْسِيرَ لِيُنْشَرَ فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ فَتَارَةً أُفَسِّرُ فِي الْجُزْءِ مِنْهُ بِضْعَ آيَاتٍ، وَتَارَةً أُفَسِّرُ آيَةً وَاحِدَةً فِي عِدَّةِ أَجْزَاءٍ وَقَدْ يَمُرُّ شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَا أَكْتُبُ فِي التَّفْسِيرِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِمَنْعِ الْعَوَائِقِ وَالْمُبَارَكَةِ فِي الْوَقْتِ وَأَنْ يُؤَيِّدَنِي فِيهِ بِرُوحٍ مِنْ عِنْدِهِ) .
أَمْرَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى