(الْقِسْمُ الثَّانِي)
(مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْحِجَاجِ وَالْأَحْكَامِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ) .
مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمِنْهُ مَا هُوَ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ خَاصَّةً. فَمِنَ الْمُشْتَرَكِ: وَصْفُهُمْ بِالْغُلُوِّ فِي دِينِهِمُ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّعَصُّبِ الضَّارِّ، وَبِاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَ مَنْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِالْغَرُورِ فِي دِينِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَبِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ نَقَضُوا مِيثَاقَ رَبِّهِمْ وَنَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذَكَّرَهُمُ اللهُ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَنَّدَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمُ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ بِمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا وَبَيَّنَ اللهُ لَهُمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ
وَهِيَ أَنَّهُمْ بَشْرٌ مِمَّنْ خَلَقَ اللهُ، لَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ; لِأَنَّ الْبَشَرَ إِنَّمَا يَمْتَازُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا بِالنَّسَبِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي هِدَايَتِهِمْ.
وَذَكَرَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلْقَاءَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِذُنُوبِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ كَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْحَضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَدَعَاهُمْ كَافَّةً لِلْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ دِينِهِمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ، وَدَحَضَ مَا زَادُوا فِيهِ بِالْبُرْهَانِ، وَبَيَّنَ بَعْضَ مَا كَانُوا يُخْفُونَ أَوْ يَجْهَلُونَ مِنْهُ أَحْسَنَ بَيَانٍ.
وَوَصَفَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أَحْسَنَ وَصْفٍ. وَذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِ التَّوْرَاةِ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ، وَمِنْ أَحْكَامِهَا عُقُوبَاتُ الْقَتْلِ وَإِتْلَافِ الْأَعْضَاءِ وَالْجُرُوحِ، وَمِنْ أَخْبَارِ الْإِنْجِيلِ وَالْمَسِيحِ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَيْنِ أُنْزِلَا نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَقَامُوهُمَا لَكَانُوا فِي أَحْسَنِ حَالٍ، وَلَسَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ مُصَدِّقًا لِأَصْلِهِمَا، وَمُبَيِّنًا لِمَا طَرَأَ عَلَيْهِمَا، وَمُكَمِّلًا لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا، عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي النُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ، الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ فِي الْبَشَرِ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْإِسْلَامَ هُزُؤًا وَلَعِبًا فِي جُمْلَتِهِ وَفِي صَلَاتِهِ، وَوَالَوْا عَلَيْهِ الْمُنَاصِبِينَ لَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً نَعْيًا عَلَيْهِمْ وَبَيَانًا لِسُوءِ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَ اللهِ الَّذِي