فَالْمُرَادُ إِذًا إِنْ تَعَذِّبْ فَإِنَّمَا تَعَذَّبُ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْذِيبَ مِنْهُمْ، وَلَا يَمْنَعُ إِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى إِطْلَاقَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى جُمْلَتِهِمْ، فَإِنَّهُ ضَمِيرُ الْجِنْسِ الَّذِي يَصْدُقُ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ وَهُوَ لَمْ يَرِدْ بِصِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَلِذَلِكَ أَطْلَقَهُ فِي الْمُقَابِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) إِلَخْ، أَيْ وَإِنْ تَغْفِرْ فَإِنَّمَا تَغْفِرُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ مِنْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، أَيِ الْقَوِيُّ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ، الْحَكِيمُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفِهِ وَصُنْعِهِ، فَيَضَعُ كُلَّ حُكْمٍ وَجَزَاءٍ وَفِعْلٍ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِ الْعَدْلِ، وَمَوْضِعِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ.
وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنْ تُعَذِّبْ مَنْ أَشْرَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تُعَذِّبْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَإِنَّ هَذَا تَعْيِينٌ لِمَنْ يُعَذِّبُهُ وَمَنْ يَغْفِرُ لَهُ يُنَافِيهِ إِطْلَاقُ ضَمِيرِ الْجِنْسِ فِي مَقَامِ التَّفْوِيضِ الَّذِي مَهَّدَ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا قَالُوهُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ. مُخَالِفًا لِمَا بَلَّغَهُمْ عَنْ رَبِّهِ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ وَالشَّهِيدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِرَبِّهِ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مُدَّةَ وُجُودِي بَيْنَهُمْ وَبَعْدَ وَفَاتِي وَأَنْتَ الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ وَلَا شَهَادَةَ أَكْبَرُ وَلَا أَصْدَقُ مِنْ شَهَادَتِكَ، فَمَهْمَا تُوقِعْهُ فِيهِمْ مِنْ عَذَابٍ فَلَا دَافِعَ لَهُ مِنْ دُونِكَ ; إِذْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ
أَرْحَمُ مِنْكَ بِعِبَادِكَ فَيَرْحَمُهُمْ أَوْ يَسْأَلُكَ أَنْ تَرْحَمَهُمْ وَمَهْمَا تَمْنَحْهُمْ مِنْ مَغْفِرَةٍ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ حِرْمَانَهُمْ مِنْهَا بِحَوْلِهِ وَقُوتِهِ; لِأَنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الَّذِي يَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، وَيَمْنَعُ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ وَلَا يُمْنَعُ، وَلَا بِتَحْوِيلِكَ عَنْ إِرَادَتِكَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْحَكِيمُ الَّذِي تَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ، فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ غَيْرِكَ أَنْ يُرْجِعَكَ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ الِاسْتِدْرَاكَ أَوِ الِافْتِيَاتَ عَلَيْكَ؟ .
فَهَذَا بَيَانُ مَا يَقْتَضِيهِ التَّفْوِيضُ الْمُطْلَقُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، بَلْ أَقُولُ: إِنَّ فِي جَزَاءِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَعْذِيبَ مَنْ يَظُنُّ الْمَخْلُوقُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ إِنْ وَقَعَ مِنَ اللهِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا عَدْلًا; لِأَنَّهُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُضَافُونَ إِلَيْهِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ أَنْ تُفِيدَهُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (43: 68) (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (39: 53) وَأَمْثَالُهُمَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُضِيفَ فِيهَا لَفْظُ عِبَادٍ إِلَى اللهِ، فَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ الَّذِي خَفِيَ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ عَظِيمًا، فَالْأَدَبُ التَّفْوِيضُ وَفِي جَزَاءِ الشَّرْطِ الثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَغْفِرَةَ إِنْ أَصَابَتْ مَنْ يَظُنُّ الْمَخْلُوقُونَ إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ فَلَا تَكُونُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا لِغَايَةٍ اقْتَضَتْهَا عِزَّةُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَحِكْمَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَلَا عِبْرَةَ بِالظَّوَاهِرِ الَّتِي تَبْدُو لِلْمَخْلُوقِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَحِكْمَتِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَبِهَذَا تَنْجَلِي نُكْتَةُ اخْتِيَارِ (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هُنَا عَلَى (الْغَفُورِ الرَّحِيمِ) عَلَى خِلَافِ مَا يَظْهَرُ بَادِئَ الرَّأْيِ مِنْ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي مُرَاعَاةِ مُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ فِي قَرْنِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ