إِبْطَالُ ابْنِ حَزْمٍ الْقِيَاسَ وَالرَّأْيَ:
(مَسْأَلَةٌ) وَلَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ فِي الدِّينِ وَلَا بِالرَّأْيِ ; لِأَنَّ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى كِتَابِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَحَّ، فَمَنْ رَدَّ إِلَى قِيَاسٍ أَوْ إِلَى تَعْلِيلٍ يَدَّعِيهِ أَوْ إِلَى رَأْيٍ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِالْإِيمَانِ، وَرَدَّ إِلَى غَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ.
(قَالَ عَلِيٌّ) : وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (6: 38) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (16: 89) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16: 44) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (5: 3) إِبْطَالٌ لِلْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمَا مَا دَامَ يُوجَدُ نَصٌّ. وَقَدْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ كُلَّ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ فَصَحَّ أَنَّ النَّصَّ قَدِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ
الدِّينِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ بِأَحَدٍ إِلَى قِيَاسٍ وَلَا إِلَى رَأْيٍ وَلَا إِلَى رَأْيِ غَيْرِهِ.
وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ: هَلْ كُلُّ قِيَاسٍ قَاسَهُ قَائِسٌ حَقٌّ؟ أَمْ مِنْهُ حَقٌّ وَمِنْهُ بَاطِلٌ؟ فَإِنْ قَالَ: كُلُّ قِيَاسٍ حَقٌّ أَحَالَ; لِأَنَّ الْمَقَايِيسَ تَتَعَارَضُ وَيُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ حَقًّا مَعًا، وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ نَسْخٍ وَلَا تَخْصِيصٍ كَالْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَإِنْ قَالَ: بَلْ مِنْهَا حَقٌّ وَمِنْهَا بَاطِلٌ قِيلَ لَهُ: فَعَرِّفْنَا بِمَاذَا يُعْرَفُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنَ الْفَاسِدِ؟ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى وُجُودِ ذَلِكَ.
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ عَلَى تَصْحِيحِ الصَّحِيحِ مِنَ الْقِيَاسِ مِنَ الْبَاطِلِ مِنْهُ فَقَدْ بَطَلَ كُلُّهُ، وَصَارَ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ.
فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، سُئِلُوا: أَيْنَ وَجَدُوا ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالُوا: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (59: 2) قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْعَرَبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ إِلَّا التَّعَجُّبَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)