عَنْكُمْ إِذَا أَنْتُمْ عَبَدْتُمُوهُ، وَلَا يَمْلِكُ لَكُمْ نَفْعًا تَرْجُونَ أَنْ يَجْزِيَكُمْ بِهِ، إِذَا عَبَدْتُمُوهُ، وَتَخَافُونَ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْكُمْ إِذَا كَفَرْتُمُوهُ؟ ! (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ السَّمِيعُ لِأَدْعِيَتِكُمْ وَسَائِرِ أَقْوَالِكُمْ، الْعَلِيمُ بِحَاجَاتِكُمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِكُمْ، فَلَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَدْعُوا غَيْرَهُ، وَلَا أَنْ تَعْبُدُوا سِوَاهُ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ مِنْ أَشَدِّ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ بِتَعْظِيمِ الْأَنْبِيَاءِ فَوْقَ مَا يَجِبُ، وَكَانَ إِيذَاءُ الْيَهُودِ لَهُ وَسَعْيُهُمْ لِقَتْلِهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْجُمُودِ عَلَى تَقَالِيدِ الدِّينِ الصُّورِيَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فِيهِ، وَكَانَ هَذَا الْغُلُوُّ هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى قَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَشَعْيَا قَالَ تَعَالَى:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) . الْغُلُوُّ: الْإِفْرَاطُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْأَمْرِ - فَإِذَا كَانَ فِي الدِّينِ، فَهُوَ تُجَاوِزُ حَدِّ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ إِلَى مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ; كَجَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَرْبَابًا يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَهُمْ، فَوْقَ سُنَنِ اللهِ
فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الْكَسْبِيَّةِ، وَاتِّخَاذِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ آلِهَةً يُعْبَدُونَ، فَيُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مَعَ اللهِ تَعَالَى. سَوَاءٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَقَبُ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ، كَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى، أَمْ لَا، وَكَشَرْعِ عِبَادَاتٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ ; كَالطَّيِّبَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْقُسُوسُ وَالرُّهْبَانُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُمْ ; مُبَالَغَةً فِي التَّنَسُّكِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللهِ، أَمْ كَانَ رِيَاءً وَسُمْعَةً - نَهَى اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنَ عَنْ هَذَا الْغُلُوِّ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، وَعَنِ التَّقْلِيدِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ ضَلَالَتِهِمْ. فَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ قَدْ ضَلُّوا بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي الدِّينِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهِ سُنَّةَ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، فَكُلُّ أُولَئِكَ كَانُوا مُوَحِّدِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا مُفْرِطِينَ وَلَا مُفَرِّطِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا لِلشِّرْكِ وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مُنْكِرِينَ، فَهَذَا التَّثْلِيثُ، وَهَذِهِ الطُّقُوسُ الْكَنِيسِيَّةُ الشَّدِيدَةُ الْمُسْتَحْدَثَةُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ابْتَدَعَهَا قَوْمٌ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، فَضَلُّوا بِهَا، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ وَضَلَالِهِمْ.
وَأَمَّا الضَّلَالُ الثَّانِي، الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ، فَقَدْ فُسِّرَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فُسِّرَ الضَّلَالُ الْأَوَّلُ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْإِسْلَامُ هُوَ سَوَاءُ السَّبِيلِ ; أَيْ وَسَطُهُ الَّذِي لَا غُلُوَّ فِيهِ، وَلَا تَفْرِيطَ ; لِتَحْتِيمِهِ الِاتِّبَاعَ، وَتَحْرِيمِهِ الِابْتِدَاعَ وَالتَّقْلِيدَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ الْأَوَّلُ ضَلَالَ الِابْتِدَاعِ وَالزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ، وَالضَّلَالُ الثَّانِي جَهْلَ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَجَوْهَرِهِ، وَكَوْنَهُ وَسَطًا بَيْنَ أَطْرَافٍ مَذْمُومَةٍ؛ كَالتَّوْحِيدِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَاتِّبَاعِ الْوَحْيِ بَيْنَ الِابْتِدَاعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَالسَّخَاءِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ. . . إِلَخْ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ غَلَبَ عَلَى غُلَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ، وَآثَرَ أَكْثَرُهُمْ