(أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعَجُّبِ مِنْ شَأْنِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ فِي تَثْلِيثِهِمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ الْمُبْطِلَةُ لَهُ، وَالنُّذُرُ بِالْعَذَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ. وَالْهَمْزَةُ دَاخِلَةٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، عُطِفَ عَلَيْهِ فِعْلُ التَّوْبَةِ الْمَنْفِيُّ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيَسْمَعُونَ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْنِيدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَاسْتِغْفَارِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ، وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَظِيمُ الْمَغْفِرَةِ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ، إِذَا هُمْ آمَنُوا وَأَحْسَنُوا فِيمَا بَقِيَ؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، أَوْ: أَيُصِرُّونَ عَلَى مَا ذُكِرَ، بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَدَحْضِ الشُّبْهَةِ، فَلَا يَتُوبُونَ؟ إِلَخْ.
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) قَدْ يَقُولُ قَائِلُهُمْ إِذَا سَمِعَ مَا تَقَدَّمَ: إِذَا كَانَ التَّثْلِيثُ أَمْرًا بَاطِلًا، لَا حَقِّيَّةَ لَهُ، وَكَانَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَاحِدًا، لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، وَلَا تَرْكِيبَ مِنْ أُصُولٍ وَلَا أَقَانِيمَ، وَلَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ بِذَاتٍ وَلَا صِفَةٍ، فَمَا بَالُ الْمَسِيحِ، وَمَا شَأْنُهُ؟ هَلْ يُعَدُّ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا يَمْتَازُ عَلَيْهَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالصِّفَاتِ؟ وَهَلْ تُعَدُّ أُمُّهُ كَسَائِرِ النِّسَاءِ؟ أَجَابَ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، الَّتِي يُورِدُهَا مَنْ أَكْبَرُوا الْمَسِيحَ أَنْ يَكُونَ بَشَرًا ; فَبَدَأَ بِذِكْرِ خُصُوصِيَّتِهِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، ثُمَّ ثَنَّى بِبَيَانِ حَقِيقَتِهِ الَّتِي يُشَارِكُ بِهَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ. أَمَّا الْخُصُوصِيَّةُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا رَسُولًا مِنْ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ، قَدْ خَلَتْ وَمَضَتْ مَنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى مِثْلَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ. فَبِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ امْتَازَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ الرُّسُلُ
عَلَى جَمَاهِيرِ النَّاسِ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَهِيَ صِدِّيقَةٌ مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ، فَمَرْتَبَتُهَا فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُمَا الشَّخْصِيَّةُ وَالنَّوْعِيَّةُ فَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لِحَقِيقَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ أَفْرَادِ نَوْعِهِمَا وَجِنْسِهِمَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ، وَكُلُّ مَنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى مَا يُقِيمُ بِنْيَتَهُ وَيَمُدُّ حَيَاتَهُ ; لِئَلَّا يَنْحَلَّ بَدَنُهُ وَتَضْعُفَ قُوَاهُ، فَيَهْلَكَ، دَعْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ أَكْلُ الطَّعَامِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْفَضَلَاتِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ، مُسَاوٍ لِسَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَخْلُوقَةِ فِي حَاجَتِهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا خَالِقًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَبًّا مَعْبُودًا، وَأَنَّ مِنْ سَفَهِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَاحْتِقَارِهِ لِجِنْسِهِ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُسَاوِيَةِ لَهُ فِي مَاهِيَّتِهِ وَمُشَخِّصَاتِهِ بِمَزِيَّةٍ عَرَضِيَّةٍ لَهَا، فَيَجْعَلَ نَفْسَهُ لَهَا عَبْدًا، وَيُسَمِّيَ مَا يُفْتَتَنُ بِخُصُوصِيَّتِهِ مِنْهَا إِلَهًا أَوْ رَبًّا.
(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَيِ انْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ، نَظَرَ عَقْلٍ وَفِكْرٍ، كَيْفَ نُبَيِّنُ لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ فِي الْمَسِيحِ