تفسير المنار (صفحة 2048)

اعْلَمْ أَنَّهُ أَقَرَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْوَزَّانِيُّ وَصَاحِبُ الْمِعْيَارِ وَأَحْمَدُ بَابَا وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ كَالزَّيَّاتِيِّ، وَقَالَ: وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَإِنْ رَدَّهُ الرُّهُونِيُّ بِالْأَقْيِسَةِ، وَمَا تَوَهَّمَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ التَّنَاقُضِ بَيْنَ كَلَامَيِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: " مَا أَكَلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الذَّكَاةِ كَالْخَنْقِ وَحَطْمِ الرَّأْسِ: مَيْتَةٌ حَرَامٌ، وَقَوْلِهِ: أَفْتَيْتُ بِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا: تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكَاةً عِنْدَنَا ; لِأَنَّ اللهَ أَبَاحَ طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ فَهُوَ حَلَالٌ لَنَا، إِلَّا مَا كَذَّبَهُمُ اللهُ فِيهِ، دَفَعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَرَوْنَهُ مُذَكًّى عِنْدَهُمْ حِلٌّ لَنَا أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكَاتُهُ، عِنْدَنَا ذَكَاةً، وَمَا لَا يَرَوْنَهُ مُذَكًّى لَا يَحِلُّ، وَيُرْجَعُ إِلَى قَصْدِ تَذْكِيَتِهِ لِتَحْلِيلِهِ وَعَدَمِهِ، كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنَ التَّتَائِيِّ عَلَى الْمُخْتَصَرِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: " أَوْ مَجُوسِيًّا تَنَصَّرَ وَذَبَحَ لِنَفْسِهِ. . . إِلَخْ " وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْ عِبَارَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَذْهَبٌ لَهُ وَحْدَهُ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ جَمِيعًا، الْعَمَلُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ طَعَامِهِمْ فَهُوَ حِلٌّ لَنَا، سَوَاءٌ كَانَ يَحِلُّ لَنَا بِاعْتِبَارِ شَرِيعَتِنَا أَوْ لَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي حِلِّ طَعَامِهِمْ مَا هُوَ حَلَالٌ

لَهُمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِشَرِيعَتِنَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ النُّصُوصُ وَالتَّعَالِيلُ الْآتِيَةُ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِلصَّلِيبِ أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِكَنَائِسِهِمْ.

قَالَ الزَّيَّاتِيُّ فِي شَرْحِ الْقَصِيدَةِ: " الرَّابِعُ: مَا ذُبِحَ لِلصَّلِيبِ، أَوْ لِعِيسَى، أَوْ لِكَنَائِسِهِمْ يُكْرَهُ أَكْلُهُ. بَهْرَامُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: " وَمَا ذَبَحُوهُ وَسَمَّوْا عَلَيْهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا ذَبَحُوهُ لِلصَّلِيبِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ لُبَابَةَ: هُوَ حَرَامٌ ; لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ لِلْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ". انْتَهَى.

" وَفِي الْقَلَشَانِيِّ أَنَّ أَشْهَبَ يَرَى - أَيْضًا - الْكَرَاهَةَ فِيمَا ذُبِحَ لِلْمَسِيحِ كَابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ: يُبَاحُ أَكْلُهُ، وَقَدْ أَبَاحَ اللهُ ذَبَائِحَهُمْ لَنَا وَقَدْ عَلِمَ مَا يَفْعَلُونَهُ، وَذَكَرَ الْقَلَشَانِيُّ - أَيْضًا - فِيمَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْمُدَوَّنَةِ الْكَرَاهَةُ.

وَنَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ مَا ذُبِحَ لِجِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. انْتَهَى. وَفِي مِنَحِ الْجَلِيلِ عَنِ الرَّمَاصِيِّ: أَجَازَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْلَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسِيحِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَالْإِبَاحَةَ لِابْنِ حَارِثٍ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَعَ رِوَايَةِ أَشْهَبَ. وَعَنْهُ أَبَاحَ اللهُ لَنَا ذَبَائِحَهُمْ، وَعَلِمَ مَا يَفْعَلُونَهُ ". انْتَهَى. وَسَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا يُكْرَهُ: وَذُبِحَ لِصَلِيبٍ أَوْ عِيسَى، وَلَيْسَ تَحْرِيمُ الْمَذْبُوحِ لِلصَّنَمِ لِكَوْنِهِ ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، بَلْ لِكَوْنِهِ لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهُ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلِيبِ، قَالَ التُّونِسِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (6: 121) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015