فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَلِمَاذَا لَا يُجْعَلُ مُخَصَّصًا بِالْحِلِّيَّةِ بِهَذِهِ الْفَتْوَى، أَيْ آيَةِ طَعَامِهِمْ، وَإِذَا جَعَلْتَ آيَةَ تَحْرِيمِهِ مُحْكَمَةً غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، فَكَذَلِكَ تَكُونُ الْمُنْخَنِقَةُ، وَلِمَاذَا تَقِيسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا تَقِيسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِنْزِيرِ، وَأَيُّ مُرَجِّحٍ لِذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ الْمَأْكُولَاتِ مِنْهَا مَا حُرِّمَ لِعَيْنِهِ، وَمِنْهَا مَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ
; فَالْخِنْزِيرُ وَمَا شَاكَلَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُحَرَّمَةٌ لِعَيْنِهَا ; وَلِهَذَا تَبْقَى عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا وَحَالَاتِهَا، وَأَمَّا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ، أَوْ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ أَتَى فِيهِ لِعَارِضٍ، وَهُوَ ذَلِكَ الْفِعْلُ، ثُمَّ أَتَى نَصٌّ آخَرُ عَامٌّ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ حَلَالٌ، فَأُخْرِجَ مِنْهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ضَرُورَةً وَبِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَبَقِيَ الْمُحَرَّمُ لِغَيْرِهِ ; وَهُوَ مَسْأَلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مَسْأَلَةُ التَّسْمِيَةِ، وَالثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْمُنْخَنِقَةِ، فَبَقِيَتَا فِي مَحَلِّ الشَّكِّ ; لِتَجَاذُبِ كُلٍّ مِنْ نَصَّيِ التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ لَهُمَا، فَوَجَدْنَا إِحْدَاهُمَا - وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّسْمِيَةِ - وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِبَاحَةِ، وَبَقِيَتْ مَسْأَلَةُ الْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا أَهْلُ الْكِتَابِ طَعَامًا لَهُمْ مَسْكُوتًا عَنْهَا، فَكَانَ قِيَاسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ ; لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِنْزِيرِ فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ فَلَا يَصِحُّ، إِذْ شَرْطُ الْقِيَاسِ: الْمُسَاوَاةُ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَجَالِ لِأَنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَكَلَامُ النَّاسِ فِيهِ كَثِيرٌ، وَاللهُ يُؤَيِّدُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. انْتَهَى ".
(مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ)
جَاءَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ مِنَ (الْمُدَوَّنَةِ) مَا نَصُّهُ " قُلْتُ: أَفَتَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصِبْيَانِهِمْ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ مَالِكٍ فِيهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إِذَا حَلَّ ذَبَائِحُ رِجَالِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَبَائِحِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ إِذَا أَطَاقُوا الذَّبْحَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَيُؤْكَلُ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَتَأَوَّلَ مَالِكٌ فِيهِ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (6: 145) وَكَانَ يَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّمَهُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا ذَبَحَتِ الْيَهُودُ مِنَ الْغَنَمِ فَأَصَابُوهُ فَاسِدًا عِنْدَهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَهُ لِأَجْلِ الرِّئَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا فِي دِينِهِمْ، أَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ مَرَّةً يُجِيزُهُ فِيمَا بَلَغَنِي. انْتَهَى " وَ (الْمُدَوَّنَةُ) عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَصْلُ الْمَذْهَبِ فَهِيَ كَالْأُمِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَجَاءَ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْفَرَسِ الْخَزْرَجَيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 599 هـ مَا نَصُّهُ:
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا حَلَالٌ لَنَا، وَأَمَّا سَائِرُ أَطْعِمَتِهِمْ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَاتِ فِيهِ ; كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَذَهَبَ
الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ