وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (3: 55) رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ التَّوَفِّي هُنَا بِالْإِمَاتَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ تَفْسِيرُهَا بِأَصْلِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ الْأَخْذُ وَالْقَبْضُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وَمِنَ الرَّفْعِ إِنْقَاذُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِنَايَةٍ مِنَ اللهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ " فَرَفْعُهُ إِيَّاهُ: تَوَفِّيهِ إِيَّاهُ وَتَطْهِيرُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا " أَيْ: لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّفْعَ إِلَى السَّمَاءِ، لَا بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَلَا بِالرُّوحِ فَقَطْ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّوَفِّيَ: الْإِمَاتَةُ، لَا يَظْهَرُ لِلرَّفْعِ مَعْنًى إِلَّا رَفْعُ الرُّوحِ، وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ الْمِعْرَاجِ ; إِذْ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ هُوَ وَابْنَ خَالَتِهِ يَحْيَى فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُفِعَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ، لَدَلَّ أَيْضًا عَلَى رَفْعِ يَحْيَى وَسَائِرِ مَنْ رَآهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فِي سَائِرِ السَّمَاوَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا أَحَدٌ.
وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ يَسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وُجُوهًا ; مِنْهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِ رَافِعُكَ إِلَيَّ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِي، وَجَعَلَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي (37: 99) وَإِنَّمَا ذَهَبَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ الْمُرَادَ رَفَعُهُ إِلَى مَكَانٍ لَا يَمْلِكُ فِيهِ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ.
وَقَدْ فَسَّرْنَا آيَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَذَكَرْنَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِيهَا، وَفِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى تَمْحِيصٍ وَبَيَانٍ، لَيْسَ التَّفْسِيرُ بِمَحَلٍّ لَهُ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُثْبِتْ لَنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا فَبِعِزَّتِهِ، وَهِيَ كَوْنُهُ يَقْهَرُ وَلَا يُقْهَرُ، وَيَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، أَنْقَذَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْيَهُودِ الْمَاكِرِينَ وَالرُّومِ الْحَاكِمِينَ، وَبِحِكْمَتِهِ جَزَى كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَأَحَلَّ بِالْيَهُودِ مَا أَحَلَّ بِهِمْ، وَسَيُوَفِّيهِمْ جَزَاءَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أَيْ: لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَآيَتُهُ لِلنَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، عِنْدَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ يَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقُّ فِي أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا ; فَالْيَهُودِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ غَيْرُ دَعِيٍّ وَلَا كَذَّابٍ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَلَا هُوَ إِلَهٌ، وَلَا ابْنُ اللهِ.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ مَعَهُمْ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ (5: 117) وَقَدْ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ، فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَالتَّكْلِيفِ، بِإِيمَانِهِ، وَعَلَى الْكَافِرِ بِكُفْرِهِ
;