أَضْعَفَ، فَقَدْ نَشَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ وَمَهْدِ الشَّرَائِعِ وَالْعِلْمِ، وَنَشَأَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أُمَّةٍ ذَاتِ شَرِيعَةٍ، وَدَوْلَةٍ ذَاتِ عِلْمٍ وَمَدَنِيَّةٍ، وَبِلَادٍ انْتَشَرَتْ فِيهَا كُتُبُ الْآدَابِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَظْهَرُ الْبُرْهَانُ عَلَى كَوْنِ مَا جَاءَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا وَحْيًا إِلَهِيًّا لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ كَمَا يَظْهَرُ الْبُرْهَانُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَهُوَ الْأُمِّيُّ الَّذِي نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَنُقِلَ كِتَابُهُ وَأُصُولُ دِينِهِ بِالتَّوَاتُرِ الْقَطْعِيِّ وَالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ دُونَ دِينِهِمَا. وَأَمَّا جَعْلُ النَّصَارَى نَبِيَّهُمْ إِلَهًا فِي الشَّكْلِ الَّذِي أَظْهَرَهُ فِيهِ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ الْوَثَنِيُّ وَخَلَفُهُ مِنَ الرُّومَانِيِّينَ فَذَلِكَ طَوْرٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفْهُ الْمَسِيحُ وَحَوَارِيُّوهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَشْكِيلٌ لِدِينِهِمْ بِشَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ وَثَنِيَّتِهِمُ السَّابِقَةِ مُؤَلَّفٌ مِنْ تَقَالِيدِ وَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْأُورُبِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ أُورُبَّةَ الْأَحْرَارُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُقَابِلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَلْتَزِمُونَ الْعَمَلَ إِلَّا بِشَرِيعَةِ الْأَخِيرِ مِنْهُمْ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الْوُلَاةِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمُ السُّلْطَانُ إِلَى الْبِلَادِ، وَمَثِلِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا كَمَثَلِ الْقَوَانِينِ الَّتِي تُصْدِرُ الْإِدَارَةُ السُّلْطَانِيَّةُ بِالْعَمَلِ بِهَا (وَلَا حَرَجَ فِي ضَرْبِ الْأَدْنَى مَثَلًا لِلْأَعْلَى) فَكُلُّ وَالٍ يُحْتَرَمُ لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ، وَكُلُّ قَانُونٍ يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْأَخِيرُ
يَنْسَخُ مَا قَبْلُهُ، فَالتَّفْرِقَةُ إِمَّا مِنْ جَهْلِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ جَهْلُ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَإِمَّا مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَإِيثَارِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرُسُلِهِ، فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ، وَبِهَا يَعْرِفُونَ الرُّسُلَ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَحَّ إِيمَانُهُمْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَكَانُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهِ، يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ أَثَرُهُ وَلَازِمُهُ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْعَمَلُ هُنَا كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ الْعَامَّةُ فِي مَقَامِ الْجَزَاءِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَرُسُلِهِ - بِلَا تَفْرِقَةٍ - بِالْكُفْرِ التَّامِّ، وَمُقَابَلَةِ وَعْدِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِوَعِيدِهِ لِلْكَافِرِينَ، وَلَمْ يَقُلْ فِي هَؤُلَاءِ: إِنَّهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا قَالَ فِي أُولَئِكَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ; لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ يُوجَدُ وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ لَازِمُهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَيَغْتَرُّ بِذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى كَثْرَةِ مَا يُنَافِيهِ وَيَرُدُّهُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ وَصْفَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (8: 2 - 4) وَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْوَعْدِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَجِدْهُ عَظِيمًا ; فَإِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ