الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (24: 2) ، فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ تُجْلَدُ إِذَا زَنَتْ خَمْسِينَ جَلْدَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَتُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ كَوْنِ الْحُرَّةِ أَبْعَدَ عَنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ، وَالْأَمَةُ عُرْضَةٌ لَهَا وَضَعِيفَةٌ عَنْ مُقَاوَمَتِهَا، فَرَحِمَ الشَّارِعُ ضَعْفَهَا فَخَفَّفَ الْعِقَابَ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ الْعَذَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْحَدَّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي تِلْكَ ـ الْآيَةِ ـ آيَةِ الْجَلْدِ ـ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كَافَّةً وِفَاقًا لِقَاعِدَةِ: " الْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا "، فَظَاهِرُهُمَا أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُحَدُّ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً، وَأَمَّا الْحُرَّةُ فَظَاهِرُ آيَةِ النُّورِ أَنَّهَا تُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُحْصَنَةً أَمْ أَيِّمًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأَيِّمُ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَلَوْلَا السُّنَّةُ لَكَانَ لِذَاهِبٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا خَصَّصَتِ الزَّانِيَةَ الْحُرَّةَ بِالْمُحْصَنَةِ لِلْمُقَابَلَةِ فِيهَا بَيْنَ الْإِمَاءِ اللَّوَاتِي أُحْصِنَّ وَبَيْنَ الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْحَرَائِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ النِّسَاءِ بِالْحَرَائِرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْحَرَائِرِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَاتِ، قَالُوا: بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِمَاءِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِمَاءِ الْمُحْصَنَاتِ لَا مُطْلَقًا، ثُمَّ قَيَّدُوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِقَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ كَوْنُهُنَّ أَبْكَارًا ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَنْ تَزَوَّجَتْ مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ وَإِنْ آمَتْ بِطَلَاقٍ، أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا، وَالْوَصْفُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْصَنَةَ بِالزَّوَاجِ هِيَ الَّتِي لَهَا زَوْجَ يُحْصِنُهَا، فَإِذَا فَارَقَهَا لَا تُسَمَّى مُحْصَنَةً بِالزَّوَاجِ كَمَا أَنَّهَا لَا تُسَمَّى مُتَزَوِّجَةً، كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا، وَالْمَرِيضُ إِذَا بَرِئَ لَا يُسَمَّى مَرِيضًا، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الَّذِينَ خَصُّوا الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِالْأَبْكَارِ: إِنَّهُنَّ قَدْ أَحْصَنَتْهُنَّ الْبَكَارَةُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الْبَكَارَةَ حِصْنٌ مَنِيعٌ لَا تَتَصَدَّى صَاحِبَتُهُ لِهَدْمِهِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَهِيَ عَلَى سَلَامَةِ فِطْرَتِهَا وَحَيَائِهَا وَعَدَمِ مُمَارَسَتِهَا لِلرِّجَالِ، وَمَا حَقُّهُ إِلَّا أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِ حِصْنُ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَكِنْ مَا بَالُ الثَّيِّبِ الَّتِي فَقَدَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحِصْنَيْنِ تُعَاقَبُ أَشَدَّ الْعُقُوبَتَيْنِ إِذْ حَكَمُوا عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ؟ هَلْ يَعُدُّونَ الزَّوَاجَ السَّابِقَ مُحَصِّنًا لَهَا وَمَا هُوَ إِلَّا إِزَالَةٌ لِحِصْنِ الْبَكَارَةِ وَتَعْوِيدٌ لِمُمَارِسَةِ الرِّجَالِ! فَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِنِظَامِ الْفِطْرَةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الثَّيِّبِ الَّتِي تَأْتِي الْفَاحِشَةَ دُونَ عُقَابِ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَكَذَا دُونَ عِقَابِ الْبِكْرِ أَوْ مِثْلَهُ فِي الْأَشَدِّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ فِي الْيَمَنِ يُعَاقِبُونَ بِالْقَتْلِ كُلًّا مِنَ الْبِكْرِ وَالْمُتَزَوِّجَةِ إِذَا زَنَتَا، وَلَا يُعَاقِبُونَ الثَّيِّبَ بِالْقَتْلِ وَلَا بِالْجَلْدِ ; لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَعْذُورَةً طَبْعًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْذُورَةً شَرْعًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِرَجْمِ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ عِنْدَمَا تَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِهِمَا إِذْ أَتَيَا الْفَاحِشَةَ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْإِحْصَانِ خِلَافًا لِمَنِ اشْتَرَطَهُ، وَرُوِيَ