وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ " كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ سَقَطَ: لَا يُحَرِّمُ إِلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ " فَهِيَ لَمْ تُبَيِّنْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَفْظَ الْقُرْآنِ، وَلَا السُّورَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ ذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ " ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحُكْمَ، وَالْعَمَلَ كَانَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ يُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الْقَائِلَةَ: " إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَآيَةُ الْخَمْسِ الرَّضَعَاتِ مِمَّا يُتْلَى مِنَ الْقُرْآنِ "، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ التِّلَاوَةُ، وَلَكِنَّهُ يَتْبَعُهُ الْحُكْمُ، وَالْعَمَلُ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّ الْعَشْرَ، وَالْخَمْسَ ذُكِرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَوَصَفَ الْخَمْسَ بِالْمَعْلُومَاتِ قَالَ: ثُمَّ سَقَطَ أَيْ نُسِخَ فَبَطَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهَا، وَهُوَ الْعَمَلُ بِتَحْرِيمِ الْخَمْسِ. وَلَهَا فِيهِ حَدِيثُ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا، وَفِيهِ أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ، وَأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرِوَايَتِهَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَسَتَأْتِي، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ سَلَفًا وَخَلَفًا، فَلَا يَعْمَلُ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْخَمْسِ كَالشَّافِعِيَّةِ. وَوَصْفُ الْخَمْسِ
بِالْمَعْلُومَاتِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ دُونَ الْعَشْرِ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ سَالِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَصْفِ الْعَشْرِ بِهَا أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، أَوْ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَشْرِ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَغْوًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ وَصْفٍ لِلْعَشْرِ يَتَّفِقُ مَعَ السِّيَاقِ وَيَرْتَضِيهِ الْأُسْلُوبُ. فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ مُضْطَرِبَةٌ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَقَاءِ التِّلَاوَةِ، وَبَعْضُهَا عَلَى نَسْخِهَا، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ وَالْخَمْسِ نَزَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْعَشْرِ نَزَلَ أَوَّلًا ثُمَّ تَرَاخَى الْأَمْرُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ حُكْمُ الْخَمْسِ نَاسِخًا لِمَا زَادَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا رَجَّحْنَا هَذَا الْأَخِيرَ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَالثَّلَاثَةُ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي سِيَاقِ بَيَانِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ مَقَامُهُ اللَّائِقُ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ سِيَاقٌ آخَرُ يُنَاسِبُ أَنْ تُوضَعَ فِيهِ تِلْكَ الْعِبَارَةُ ثُمَّ تُحْذَفَ مِنْهُ، فَالْأَقْرَبُ فِي تَصْوِيرِ ذَلِكَ إِذًا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْآيَةِ (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ) ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ عَمِلَ فِيهَا النَّاسُ بِقَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى عَشْرٍ - اسْتِبْدَالُ لَفْظِ " خَمْسٍ " بِلَفْظِ " عَشْرٍ "، وَبَقِيَ النَّاسُ يَقْرَءُونَهَا هَكَذَا إِلَى مَا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَإِذَا سَأَلَ سَائِلٌ لِمَاذَا لَمْ تَثْبُتْ حِينَئِذٍ فِي الْقُرْآنِ؟ أَجَابَهُ الْجَامِدُونَ عَلَى الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ لِمَعَانِيهَا بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهَا لِأَنَّ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُوُفِّيَ وَهُمْ يَتْلُونَهَا لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ! .
وَلَا يُبَالِي أَصْحَابُ هَذَا الْجَوَابِ بِمُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى عَدَمِ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15: 9] ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ