سُورَةُ النِّسَاءِ (وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ، وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَسَبْعُونَ وَسَبْعُ آيَاتٍ فِي الْعَدِّ الشَّامِيِّ، وَسِتٌّ فِي الْكُوفِيِّ، وَعَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْآسِتَانَةِ، وَمِصْرَ، وَخَمْسٌ فِي الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَعَلَيْهِ مُصْحَفُ فَلَوْجَلَ. فَالْخِلَافُ فِي فَاصِلَتَيْنِ)
أَقُولُ: وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ، قِيلَ: فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " أَعْرَسَ بِي عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ " أَيْ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقِيلَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [4: 58] ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ. وَزَعَمَ النَّحَّاسُ أَنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ لِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِصَّةِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ وَهْمٌ بَعِيدٌ، وَاسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ نُزُولَ آيَةٍ مِنَ السُّورَةِ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ السُّورَةِ كُلِّهَا مَكِّيَّةً، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي وَاقِعَةِ الْمِفْتَاحِ تُشْعِرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ الْآيَةَ مُحْتَجًّا، وَمُبَيِّنًا لِلْحُكْمِ فِيهَا. فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ، وَفَتَحَ الْكَعْبَةَ، وَأَزَالَ مِنْهَا تِمْثَالَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْقِدَاحَ الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا، عَادَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَقَرَأَ الْآيَةَ. وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ اسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ يُنْظَرُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَيَانُ الْوَاقِعِ، وَتَحْدِيدُ التَّارِيخِ بِالتَّفْصِيلِ إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا.
ثَانِيهِمَا: بَيَانُ شَأْنِ الدِّينِ، وَسُنَّةِ التَّشْرِيعِ وَأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَهَا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ رَجَّحَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَلَا يَعْنُونَ بِهَذَا أَنَّهُ نَزَلَ
فِي نَفْسِ الْمَدِينَةِ بِالتَّفْصِيلِ كُلُّ آيَةٍ آيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَتِ الْمَدِينَةُ فِيهِ هِيَ عَاصِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ قُوَّةٌ تَمْنَعُهُمْ وَنِظَامٌ يَجْمَعُ شَمْلَهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، أَوْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَحُكْمِ مَا نَزَلَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ