بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنْ رَأَيْنَاهَا تَحْتَمِلُ الْإِيذَاءَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى الْقَتْلَ فَلْنُبَشِّرْهَا بِالصِّدْقِ مِنْهَا، وَالرِّضْوَانِ مِنْهُ - تَعَالَى -، وَإِلَّا فَعَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي لَا يُنْجِي عِنْدَهُ غَيْرُهَا. وَإِنَّمَا كَلَّفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الْمُوقِنِينَ الْمُخْلِصِينَ هَذَا التَّكْلِيفَ الشَّاقَّ لِأَنَّ قِيَامَ الْحَقِّ مُرْتَبِطٌ بِهِ، وَإِنَّمَا سَعَادَتُهُمْ - مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ - بِقِيَامِ الْحَقِّ وَتَأْيِيدِهِ، وَالْحَقُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَمَكَانٍ مُحْتَاجٌ إِلَى أَهْلِهِ لِيَنْصُرُوهُ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَهُ. وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ يَتَصَارَعَانِ دَائِمًا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حِزْبٌ يَنْصُرُهُ، فَيَجِبُ عَلَى أَنْصَارِ الْحَقِّ أَلَّا يَفْشَلُوا وَلَا يَنْهَزِمُوا، بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا، وَيَصْبِرُوا، حَتَّى تَكُونَ كَلِمَتُهُ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ الْبَاطِلِ هِيَ السُّفْلَى. (قَالَ) : وَانْظُرْ إِلَى حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ تَجِدُهُمْ يَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ، كَأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُونَ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُمْ، وَيُعْطِيَهُمْ مَا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومُوا بِعَمَلٍ مِمَّا أَمَرَ
بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أَنْ يَتَّصِفُوا بِوَصْفٍ مِمَّا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ، وَمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ وَعْدَهُ بِمَثُوبَتِهِمْ، بَلْ وَإِنِ اتَّصَفُوا بِضِدِّهِ وَهُوَ مَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْغُرُورِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَجْتَمِعُ وَتَفْتَرِقُ، فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ تَرَكَ وَطَنَهُ مُخْتَارًا، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنْهُ إِخْرَاجًا، بَلْ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ هَاجَرَ مُسْتَخْفِيًا لِئَلَّا يَمْنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ. وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَكُونُوا أَمَرُوهُمْ بِالْهِجْرَةِ أَمْرًا، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ قَسْرًا، فَإِنَّهُمْ قَدْ ضَيَّقُوا عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ حَتَّى أَلْجَئُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ أُوذِيَ وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا مَكَّنُوهُ مِنَ الْخُرُوجِ. وَرَاجِعْ بَعْضَ الْكَلَامِ فِي إِيذَاءِ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ص254 وَمَا بَعْدَهَا ح2 [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْهِجْرَةَ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ حَتَّى تُمْنَعَ التَّوْبَةُ أَيْ إِلَى قُبَيْلِ قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا فَقَدْ قَرَأَهُ حَمْزَةُ بِعَكْسِ التَّرْتِيبِ فِي اللَّفْظِ " وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا "، وَقَالُوا فِيهِ: إِنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا هُمُ الْبَادِئِينَ، فَلَمَّا قُتِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُنَاسٌ قَاتَلُوا الْكُفَّارَ. وَشَدَّدَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ تَاءَ " قُتِّلُوا " لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا جَاءَ فِي كَلَامِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْتُلُونَ كُلَّ مَنْ قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ قَرِيبٍ وَوَلِيٍّ. وَقَدْ رَاجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا الَّذِينَ اخْتَارُوا الْمُهَاجَرَةَ مِنْ أَوْطَانِهِمْ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمُ الَّذِينَ أَلْجَأَهُمُ الْكُفَّارُ إِلَى الْخُرُوجِ. وَلَا شَكَّ أَنْ رُتْبَةَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا خِدْمَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُلَازَمَتَهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، فَكَانُوا أَفْضَلَ. وَقَوْلُهُ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أَيْ مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِهِ، وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ تَكُونُ قَبْلَ الْقِتَالِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ