وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: وَسَمَاعُ النِّدَاءِ يَشْمَلُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً فِي عَصْرِهِ، وَمَنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: فَآمَنَّا مُرَادًا بِهِ إِيمَانٌ جَدِيدٌ غَيْرُ الْإِيمَانِ الَّذِي اسْتَفَادُوهُ مِنَ التَّفَكُّرِ، وَالذِّكْرِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا سَمِعُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ أَوَّلًا، وَآمَنُوا بِهِ ثُمَّ نَظَرُوا، وَذَكَرُوا، وَتَفَكَّرُوا، فَاهْتَدَوْا إِلَى مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُدَعِّمُ إِيمَانَهُمْ، فَذَكَرُوا النَّتِيجَةَ، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِالْوَسِيلَةِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَأْخِيرَ هَذِهِ عَنْ تِلْكَ فِي الْعِبَارَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا تُفِيدُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ اتِّصَالَ هَذَا الدُّعَاءِ بِمَا قَبْلَهُ، وَكَوْنَ الْإِيمَانِ سَبَبًا لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ: الْإِذْعَانُ لِلرُّسُلِ فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، لَا دَعْوَى الْإِيمَانِ بِاللِّسَانِ مَعَ خُلُوِّ الْقَلْبِ مِنَ الْإِذْعَانِ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ ; وَلِأَجْلِ هَذَا اسْتَشْعَرُوا الْخَوْفَ مِنَ الْهَفَوَاتِ، وَالسَّيِّئَاتِ فَطَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ، وَالتَّكْفِيرَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذُّنُوبِ هُنَا الْكَبَائِرُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَعِنْدِي أَنَّ الذُّنُوبَ هِيَ: التَّقْصِيرُ فِي عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَكُلِّ مُعَامَلَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَالسَّيِّئَاتُ: هِيَ التَّقْصِيرُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا.
فَالذَّنْبُ مَعْنَاهُ الْخَطِيئَةُ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ مَا يَسُوءُ، فَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْإِسَاءَةِ يُشْعِرُ بِمَا قُلْنَاهُ، وَغَفْرُ الذُّنُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ سَتْرِهَا، وَعَدَمِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ ; وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ عِبَارَةٌ عَنْ حَطِّهَا، وَإِسْقَاطِهَا، فَكُلٌّ مِنَ الطَّلَبَيْنِ مُنَاسِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ أَيْ أَمِتْنَا عَلَى حَالَتِهِمْ، وَطَرِيقَتِهِمْ، يُقَالُ أَنَا مَعَ فُلَانٍ أَيْ عَلَى رَأْيِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَمَذْهَبِهِ فِي عَمَلِهِ. وَالْأَبْرَارُ: هُمُ الْمُحْسِنُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ.
أَقُولُ: رَاجِعْ فِي الْأَبْرَارِ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ [2: 177] فِي ص89 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 [ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ] وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [2: 189] وَتَفْسِيرَ الْغُفْرَانِ وَالْمَغْفِرَةِ (في 115، 170، 188، 255 ج 2، 158، 99 ج 4) .
أَمَّا الذَّنْبُ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ الْأَخْذُ بِذَنَبِ الشَّيْءِ (بِالتَّحْرِيكِ) ، يُقَالُ ذَنَبْتُهُ أَيْ أَصَبْتُ ذَنَبَهُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ فِعْلٍ يُسْتَوْخَمُ عُقْبَاهُ اعْتِبَارًا بِذَنَبِ الشَّيْءِ ; وَلِهَذَا يُسَمَّى الذَّنْبُ تَبِعَةً اعْتِبَارًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْ عَاقِبَتِهِ، وَجَمْعُ الذَّنْبِ ذُنُوبٌ اهـ.
أَقُولُ: وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا سَوَاءٌ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَمِنْهُ تَرْكُ الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَهِيَ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا، أَوْ تَسُوءُ غَيْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَاجِلًا، أَوْ آجِلًا، فَهِيَ عَامَّةٌ أَيْضًا، وَضِدُّهَا الْحَسَنَةُ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ، وَالشَّرْعِ نَحْوُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [6: 160] وَحَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ