بَلْ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا يَسُرُّهُمْ وَيُمَتِّعُهُمْ بِلَذَّاتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَهْلَكَةً لِلْأُمَّةِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي أَقْوَامٍ هَذَا شَأْنُهُمْ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [6: 44] وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [10: 58] لِأَنَّ السُّرُورَ بِالنِّعْمَةِ مَعَ تَذَكُّرِ أَنَّهَا فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَا يُحْدِثُ بَطَرًا، وَلَا غُرُورًا، وَإِنَّمَا يُحْدِثُ شُكْرًا، وَإِحْسَانًا فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا فَقِهْتَ هَذَا كُلَّهُ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِأَعْمَالِهِمْ - فَرَحَ بَطَرٍ وَاخْتِيَالٍ وَغُرُورٍ - يَكُونُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي بَطَرُوا بِهَا، وَفَخَرُوا، وَاغْتَرُّوا بِهَا، وَكَفَرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ قَدْ تَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ رَدِيئَةٌ، وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ قَدْ تَكُونُ لَهَا عَاقِبَةٌ حَسَنَةٌ، وَفِي هَذَا قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي حِكْمَةٍ: " رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَانْكِسَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا ".
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي حَقَّقَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي صِفَاتِ الْأَخْيَارِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [23: 60] وَمَا رُوِيَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ - وَصَحَّحَهُ - وَغَيْرِهِمْ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَوْلُ اللهِ: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَهُوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ،
وَيَزْنِي، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللهَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللهَ أَلَّا يَقْبَلَ مِنْهُ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [23: 61] بِخِلَافِ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ - بِمَا أَتَوْا مِنْ عَمَلٍ، وَمَا آتَوْا مِنْ صَدَقَةٍ - فَرَحَ عُجْبٍ وَخُيَلَاءَ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الرِّيَاءُ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، فَيَكْسَلُونَ عَنِ الْعَمَلِ، وَلَا يُوَاظِبُونَ عَلَيْهِ.
هَذَا شَأْنُ الْعَمَلِ فِي الدِّينِ، وَمِثْلُهُ الْعَمَلُ فِي الدُّنْيَا، وَلِلدُّنْيَا كَمَا يُفِيدُنَا الْبَحْثُ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْغُرُورُ يَفْرَحُونَ، وَيَبْطَرُونَ بِكُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ مُنْتَهَى الْكَمَالِ، فَلَا تَنْشَطُ هِمَمُهُمْ إِلَى طَلَبِ الْمَزِيدِ، وَالْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَلَا يَقْبَلُونَ الِانْتِقَادَ عَلَى التَّقْصِيرِ. حَدَّثَنِي الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَالِمٌ أَلْمَانِيٌّ لَقِيتُهُ فِي السَّفِينَةِ فِي إِحْدَى سِيَاحَاتِي قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَنَا عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ نَحْنُ رَاضُونَ بِهِ، وَمُعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّرَقِّيَ وَالْإِتْقَانَ، بَلْ عِنْدَنَا جَمْعِيَّاتٌ تَبْحَثُ فِي تَرْقِيَةِ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْسِينِهِ مِنَ الْإِبْرَةِ إِلَى أَعْظَمِ الْآلَاتِ، وَأَبْدَعِ الْمُخْتَرَعَاتِ، مِثَالُ ذَلِكَ الْبُنْدُقِيَّةُ يَبْحَثُونَ فِيهَا: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَخَفَّ وَزْنًا، أَوْ أَبْعَدَ رَمْيًا، أَوْ أَقَلَّ نَفَقَةً؟ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.
فَإِذَا تَدَبَّرْتَ مَا قُلْنَاهُ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الذَّمِيمَتَيْنِ: فَرَحِ الْبَطَرِ، وَالْغُرُورِ، وَالْفَخْرِ بِالْأَعْمَالِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْكَسَلِ، وَالْإِهْمَالِ، وَحُبِّ الْمَحْمَدَةِ الْبَاطِلَةِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ، إِذَا تَدَبَّرْتَ