وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ، فَإِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَكَلَتْهُ ; أَيْ أَكَلَتْ مَا تَصَدَّقَ بِهِ. هَذَا مَا أَوْرَدَهُ، وَرَدُّوهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْبَانَ إِنَّمَا كَانَ يُوجِبُ الْإِيمَانَ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَا لِذَاتِهِ إِذْ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
أَقُولُ: إِنَّ الْقُرْبَانَ فِي عِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ عَلَى قِسْمَيْنِ: دَمَوِيٌّ، وَغَيْرُ دَمَوِيٍّ. فَالْقَرَابِينُ الدَّمَوِيَّةُ كَانَتْ تَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ كَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْحَمَامِ، وَغَيْرُ الدَّمَوِيَّةِ هِيَ بَاكُورَاتُ الْمَوَاسِمِ، وَالْخَمْرُ، وَالزَّيْتُ، وَالدَّقِيقُ. وَالْقَرَابِينُ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنْهَا: الْمُحَرَّقَاتُ، وَالتَّقَدُّمَاتُ، وَذَبَائِحُ السَّلَامَةِ، وَذَبَائِحُ الْخَطِيئَةِ، وَذَبَائِحُ الْإِثْمِ. وَكَانُوا يَحْرِقُونَ الْمُحَرَّقَاتِ بِأَيْدِيهِمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ فِي ذَلِكَ مَا نَصُّهُ:
" [1] وَدَعَا الرَّبُّ مُوسَى. وَكَلَّمَهُ مِنْ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ قَائِلًا [2] كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ. إِذَا قَرَّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَمِنَ الْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ تُقَرِّبُونَ قَرَابِينَكُمْ [3] إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مُحْرَقَةً مِنَ الْبَقَرِ فَذَكَرًا صَحِيحًا يُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ يُقَدِّمُهُ لِلرِّضَا عَنْهُ أَمَامَ الرَّبِّ [4] وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الْمُحْرَقَةِ فَيَرْضَى عَلَيْهِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْهُ [5] وَيَذْبَحُ الْعِجْلَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَيُقَرِّبُ بَنُو هَارُونَ الْكَهَنَةُ الدَّمَ، وَيَرُشُّونَ الدَّمَ مُسْتَدِيرًا عَلَى الْمَذْبَحِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ [6] وَيَسْلُخُ الْمُحْرَقَةَ، وَيُقَطِّعُهَا إِلَى قِطَعِهَا [7] وَيَجْعَلُ بَنُو هَارُونَ الْكَاهِنِ نَارًا عَلَى الْمَذْبَحِ، وَيُرَتِّبُونَ حَطَبًا عَلَى النَّارِ [8] وَيُرَتِّبُ بَنُو هَارُونَ الْكَهَنَةُ الْقِطَعَ مَعَ الرَّأْسِ، وَالشَّحْمَ فَوْقَ الْحَطَبِ الَّذِي عَلَى النَّارِ الَّتِي عَلَى الْمَذْبَحِ [9] وَأَمَّا أَحْشَاؤُهُ وَأَكَارِعُهُ فَيَغْسِلُهَا بِمَاءٍ وَيُوقِدُ الْكَاهِنُ الْجَمِيعَ عَلَى الْمَذْبَحِ مَحْرَقَةَ وَقُودٍ رَائِحَةَ سُرُورٍ لِلرَّبِّ "
ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَ قُرْبَانِ الْغَنَمِ بِصِنْفَيْهِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، وَالطَّيْرِ وَهُوَ صِنْفَانِ أَيْضًا الْحَمَامُ وَالْيَمَامُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا بَيَّنَ بَقِيَّةَ أَنْوَاعِ الْقَرَابِينِ. فَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوقِدُونَ النَّارَ بِأَيْدِيهِمْ وَيَحْرِقُونَ بِهَا الْقَرَابِينَ الْمُحَرَّقَاتِ، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُلْقُونَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ
أَخْبَارًا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ، أَوْ مُخْتَرَعَاتِهِمْ لِيُودِعُوهَا كُتُبَهُمْ، وَيَمْزُجُوهَا بِدِينِهِمْ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ فِي كُتُبِ قَوْمِنَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْخُرَافِيَّةِ مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَلَا يَزَالُ يُوجَدُ فِينَا مَنْ يُقَدِّسُ كُلَّ مَا رُوِيَ عَنْ أَوَائِلِنَا فِي التَّفْسِيرِ، وَغَيْرِهِ، وَيَرْفَعُهُ عَنِ النَّقْدِ وَالتَّمْحِيصِ، وَلَا يَتِمُّ تَمْحِيصُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أَمَّا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَقَدْ ذَكَرَ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقُرْبَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ