رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [2: 129] إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَنْفُسِهِمْ هَاهُنَا الْبَشَرُ لَا الْعَرَبُ. أَقُولُ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ وَإِنْ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكَوْنِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْبَشَرِ، أَمَّا ضَعْفُهُ فَمِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ مَنْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ نُزُولِهَا فِي عَقِبِ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. (ثَانِيهَا) مُوَافَقَةُ دَعْوَةِ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ -، وَإِنَّمَا دَعَوْا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا، وَذُرِّيَّةُ إِسْمَاعِيلَ هُمُ الْعَرَبُ الْمُسْتَعْرِبَةُ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ. (ثَالِثُهَا) مُوَافَقَةُ آيَةِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي فِي مَعْنَى هَذِهِ
الْآيَةِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [62: 2] وَالْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ. (رَابِعُهَا وَخَامِسُهَا) مَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَمَا يَأْتِي فِي تَفْسِيرِ وَصْفِهِمْ بِالضَّلَالِ الْمُبِينِ. (سَادِسُهَا) أَنَّ الْعَرَبَ هُمُ الَّذِينَ تَلَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِسَانِهِ آيَاتِ اللهِ، وَبَاشَرَ بِنَفْسِهِ تَزْكِيَتَهُمْ وَتَعْلِيمَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلُوا دَعْوَتَهُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعَرَبِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ مِنْ تَلْقِينِهِ لِكُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الدِّينِ. وَمَنْ جَحَدَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ يَكُونُ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ صَارَ يَنْشُرُ الدَّعْوَةَ كُلُّ قَوْمٍ قَبِلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، فَصَحَّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [34: 28] وَقَوْلُهُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21: 107] .
الْوَصْفُ الثَّانِي قَوْلُهُ: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَاتُ هِيَ الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكَمْتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَتِلَاوَتُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تِلَاوَةِ مَا فِيهِ بَيَانُهَا وَتَوْجِيهِ النُّفُوسِ إِلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3: 190] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2: 164] وَمِنْهَا مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ كَلِمَةُ " الْآيَاتِ " كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا [91: 1، 2] إِلَخْ.
الْوَصْفُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ