وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يَتَوَكَّلُوا عَلَى غَيْرِهِ ; لِأَنَّ النَّصْرَ بِيَدِهِ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ لِأَسْبَابِهِ وَأُهَبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ أَسْبَابَ النَّصْرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ (رَاجِعْ لَفْظَ " نَصْرٍ " فِي الْأَجْزَاءِ السَّابِقَةِ) .
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ تَرْكَ الْأَسْبَابِ بِدَعْوَى التَّوَكُّلِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ بِالشَّرْعِ أَوْ فَسَادٍ فِي الْعَقْلِ، فَالتَّوَكُّلُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَالْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ مَحَلُّهُ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ، وَالْإِنْسَانُ مَسُوقٌ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى فِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ [30: 30] وَمَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ. قَالَ - تَعَالَى -: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [67: 15] وَقَالَ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [4: 71] وَقَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [8: 60] وَقَالَ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [2: 197]- رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا - وَقَالَ لِنَبِيِّهِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [11: 81] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا [4: 23] وَقَالَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ لِنَبِيِّهِ يُوسُفَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [12: 5] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْهُ أَيْضًا: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [12: 67] فَأَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ وَالتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَلَا غَنَاءَ لِلْمُؤْمِنِ عَنْهُمَا.
ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَكَّلَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ لِلْأَمْرِ وَيَأْخُذْ لَهُ أُهْبَتَهُ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ يَقَعُ فِي الْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ عِنْدَمَا يَخِيبُ وَيَفُوتُهُ غَرَضُهُ فَيَكُونُ مَلُومًا شَرْعًا وَعَقْلًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَالِ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [17: 29] وَإِذَا هُوَ اسْتَعَدَّ وَأَخَذَ بِالْأَسْبَابِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَافِلًا قَلْبُهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَكُونُ عُرْضَةً لِلْجَزَعِ وَالْهَلَعِ إِذَا خَابَ سَعْيُهُ وَلَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ فَيَفُوتُهُ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ اللَّذَانِ يُهَوِّنَانِ عَلَيْهِ الْأَمْرَ، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَيْفَ يَسْتَفِيدُ مِنَ الْخَيْبَةِ وَيَتَدَارَكُ أَمْرَهُ فِيهَا، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي الْيَأْسِ الَّذِي لَا مَطْمَعَ مَعَهُ فِي فَلَاحٍ وَلَا نَجَاحٍ ; وَلِذَلِكَ قَرَنَ اللهُ الصَّبْرَ بِالتَّوَكُّلِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فِي مُحَاجَّةِ أَقْوَامِهِمْ: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [14: 12] وَذَكَرُوا أَنَّ اللهَ هَدَاهُمْ سُبُلَهُ وَهِيَ سُنَنُهُ فِي الْأَسْبَابِ وَأَنَّهُمْ مُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ لِأَنَّهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ - تَعَالَى -. وَوَصَفَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [16: 42] وَقَالَ: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [29: 58، 59] فَوَصَفَهُمْ بِالْعَمَلِ