تفسير المنار (صفحة 127)

وَقَدْ فَصَّلَ شَيْخُنَا سِرَّ مُخَادَعَتِهِمْ وَفَلْسَفَتَهَا بِبَيَانٍ عِلْمِيٍّ جَلِيٍّ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ إِذَا عَرَضَ زَاجِرُ الدِّينِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ قَامَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُسَهِّلُ لَهُمْ أَمْرَهُ مِنْ أَمَلٍ فِي الْغُفْرَانِ، أَوْ تَأْوِيلٍ إِلَى غَيْرِ الْمُرَادِ، أَوْ تَحْرِيفٍ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْقَصْدَ مِنَ الْخِطَابِ، وَذَلِكَ بِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ مَلَكَاتِ السُّوءِ، الْمُغَشَّاةِ بِصُوَرٍ مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُلَوِّنَةِ مِمَّا قَدْ يَتَجَلَّى لِلْأَعْيُنِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ إِيمَانًا وَمَا هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بِمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ خَادِعُونَ مَخْدُوعُونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عُمِّيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمُرُّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ.

وَفَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ مَا تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَتَسْتَعْرِضُهُ عِنْدَمَا تَسْأَلُ عَنْهُ، وَمَا هُوَ رَاسِخٌ فِيهَا مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ، بِصَيْرُورَتِهِ مَلَكَةً فِي النَّفْسِ مُتَصَرِّفَةً فِي الْإِرَادَةِ، بَاعِثَةً لَهَا عَلَى الْعَمَلِ، فَمِنَ الْعُلُومِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي النَّفْسِ مُمْتَزِجٌ بِهَا (عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَتْبَعُ امْتِزَاجَهُ هَذَا تَمَكُّنُ مَلِكَاتٍ أُخَرَ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ، وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ كَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَنْطَبِعُ فِي النَّفْسِ تَبَعًا لِلْعِلْمِ الَّذِي يُلَائِمُهَا) وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ الْأَعْمَالُ، وَرُبَّمَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ وَلَا يُلَاحِظُهُ عِنْدَمَا يَعْمَلُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مُلَاحَظَةِ الْعَلَمِ وَاسْتِحْضَارِهِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَتَحَقُّقِهِ فِي نَفْسِهِ.

وَمِنَ الْعُلُومِ مَا يُلَاحِظُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عِنْدَهُ، فَهُوَ صُورَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ تَسْتَحْضِرُهُ عِنْدَ الْمُنَاسَبَةِ وَيَغِيبُ عَنْهَا عِنْدَ عَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهُ الْقَلْبُ وَلَمْ يَمْتَزِجْ بِالنَّفْسِ فَيَصِيرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهَا الرَّاسِخَةِ الَّتِي لَا تُزَايِلُهَا (وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ، كَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي يُحَصِّلُهُ طَلَبَةُ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ مَثَلًا، وَكَعِلْمِ مَزَايَا الْفَضِيلَةِ وَرَزَايَا الرَّذِيلَةِ الَّذِي يُخَزِّنُهُ طُلَّابُ عُلُومِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالنُّظَّارُ فِي كُتُبِ الْأَوَاخِرِ وَالْأَوَائِلِ، لِتَعْزِيزِ مَادَّةِ الْعِلْمِ، وَتَوْسِيعِ مَجَالِ الْقَوْلِ، وَتَوْفِيرِ الْقُدْرَةِ عَلَى حُسْنِ الْمَنْطِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا الْعِلْمُ كَالْأَدَاةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنِ الْعَامِلِ، يَبْقَى فِي خِزَانَةِ الْخَيَالِ، تَسْتَحْضِرُهُ النَّفْسُ عِنْدَمَا تَدْفَعُهَا الشَّهْوَةُ إِلَى تَزْيِينِ

ظَاهِرِ الْمَقَالِ، لَا إِلَى تَحْسِينِ بَاطِنِ الْحَالِ، وَلَنْ يَكُونَ لِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْعِلْمِ أَدْنَى أَثَرٍ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ صَاحِبِهِ وَتَسْمِيَتُهُ عِلْمًا؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِهِ الْعَامِّ: " صُورَةٌ مِنَ الشَّيْءِ حَاضِرَةٌ عِنْدَ النَّفْسِ " وَعِنْدَ التَّدْقِيقِ لَا تَرْتَفِعُ بِهِ مَنْزِلَتُهُ إِلَى أَنْ يَنْدَرِجَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ (الْحَقِيقِيِّ) فَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْعِلْمِ كَاسْتِحْضَارِ الْكِتَابِ وَاللَّوْحِ وَإِدْرَاكِ مَا فِيهِ، ثُمَّ الذُّهُولِ عَنْهُ وَنِسْيَانِهِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ.

فَهَؤُلَاءِ - الَّذِينَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى - عِنْدَهُمْ عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ تَنْبَعِثُ عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَصْدِيقُهُمْ بِمَا فِي شَهَوَاتِهِمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ لِذَوَاتِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَ عِنْدَهُمُ اخْتِيَارَ مَا فِيهِ قَضَاؤُهَا وَالِانْصِبَابَ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا خَزَّنُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَأَبْعَدَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يُعْتَدُّ بِهِ، وَجَعَلَهُ رَسْمًا مَخْزُونًا فِي الْخَيَالِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْأَفْعَالِ، يَدْعُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015