تفسير المنار (صفحة 12)

جَمِيعِ الْعُلُومِ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ شَيْئًا مِنْهَا، لَا تُفِيدُ الْكُتُبُ إِلَّا إِذَا صَادَفَتْ قُلُوبًا مُتَيَقِّظَةً عَالِمَةً بِوَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا تَسْعَى فِي نَشْرِهَا. إِذَا وَصَلَ لِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كِتَابٌ فِيهِ غَيْرُ مَا يَعْلَمُونَ لَا يَعْقِلُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَإِذَا عَقَلُوا مِنْهُ شَيْئًا يَرُدُّونَهُ وَلَا يَقْبَلُونَهُ، وَإِذَا قَبِلُوهُ حَرَّفُوهُ إِلَى مَا يُوَافِقُ عِلْمَهُمْ وَمَشْرَبَهُمْ، كَمَا جَرُّوا عَلَيْهِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي نُرِيدُ بَيَانَ مَعْنَاهَا الصَّحِيحِ وَمَا تُفِيدُهُ ".

" إِنَّ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤَثِّرُ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْمُتَكَلِّمِ وَحَرَكَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ وَلَهْجَتَهُ فِي الْكَلَامِ - كُلُّ ذَلِكَ يُسَاعِدُ عَلَى فَهْمِ مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ، وَأَيْضًا يُمَكِّنُ السَّامِعَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الْمُتَكَلِّمَ عَمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ فَإِذَا كَانَ مَكْتُوبًا فَمَنْ يَسْأَلُ؟ إِنَّ السَّامِعَ يَفْهَمُ 80 فِي الْمِائَةِ مِنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْقَارِئَ لِكَلَامِهِ يَفْهَمُ مِنْهُ 20 فِي الْمِائَةِ عَلَى مَا أَرَادَ الْكَاتِبُ. وَمَعَ ذَلِكَ كُنْتُ أَقْرَأُ التَّفْسِيرَ، وَكَانَ يَحْضُرُهُ بَعْضُ طَلَبَةِ الْأَزْهَرِ وَبَعْضُ طَلَبَةِ الْمَدَارِسِ الْأَمِيرِيَّةِ، وَكُنْتُ أَذْكُرُ كَثِيرًا مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا حَالَةُ الْعَصْرِ فَمَا اهْتَمَّ لَهَا أَحَدٌ - فِيمَا أَعْلَمُ - مَعَ أَنَّهَا كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُكْتَبَ، وَمَا عَلَّمْتُ أَحَدًا مِنْهَا شَيْئًا خَلَا تِلْمِيذَيْنِ قِبْطِيَّيْنِ مِنْ مَدْرَسَةِ الْحُقُوقِ، وَكَانَا يُرَاجِعَانِي فِي بَعْضِ مَا يَكْتُبَانِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا ".

" قَرَأْتُ تَفْسِيرَ سُورَةِ الْعَصْرِ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَكُلُّ دَرْسٍ لَا يَقِلُّ عَنْ سَاعَتَيْنِ أَوْ سَاعَةٍ وَنِصْفٍ. بَيَّنْتُ فِيهَا وَجْهَ كَوْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرٍ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى، وَمَا الْمُرَادُ بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، مِمَّا لَوْ جُمِعَ لَكَانَ رِسَالَةً حَسَنَةً فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ. وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا كَتَبَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدَ الْعَزِيزِ ".

(قُلْتُ) : إِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَنَبِّهِينَ لِحَالَةِ الْعَصْرِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْبِلَادِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا نَبَّهَهُمْ إِلَّا " الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى " وَأَنَا لَمْ أَنْتَبِهِ التَّنَبُّهَ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ إِلَّا بِهَا.

(قَالَ) : " إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُوجَدُ فِيهِمْ خَاصِّيَّةٌ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ بِأَيِّ مَوْضُوعٍ أَمَامَ أَيِّ إِنْسَانٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ يُدْرِكُ الْكَلَامَ وَيَقْبَلُهُ أَمْ لَا، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ كَانَتْ مَوْجُودَةً

عِنْدَ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ يُلْقِي الْحِكْمَةَ لِمُرِيدِهَا وَغَيْرِ مُرِيدِهَا، وَأَنَا كُنْتُ أَحْسُدُهُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّنِي تُؤَثِّرُ فِيَّ حَالَةُ الْمَجَالِسِ وَالْوَقْتِ، فَلَا تَتَوَجَّهُ نَفْسِي لِلْكَلَامِ إِلَّا إِذَا رَأَيْتُ لَهُ مَحَلًّا. وَهَكَذَا الْكِتَابَةُ، فَإِنَّنِي رُبَّمَا أَتَصَوَّرُ أَنْ أَكْتُبَ بِمَوْضُوعٍ وَعِنْدَمَا أُوَجِّهُ قُوَايَ لِجَمْعِ مَا يَحْسُنُ كِتَابَتُهُ تَتَوَارَدُ عَلَى فِكْرِي مَعَانٍ كَثِيرَةٌ، وَوُجُوهٌ لِلْكَلَامِ جَمَّةٌ، ثُمَّ يَأْتِينِي خَاطِرٌ لِمَنْ أُلْقِي هَذَا الْكَلَامَ، وَمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ؟ فَأَتَوَقَّفُ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَأَرَى تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَدِ امْتَصَّ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى تَلَاشَتْ وَلَا أَكْتُبُ شَيْئًا ".

"

طور بواسطة نورين ميديا © 2015