فإن قيل: فكيف وسوس لهما وهما في الجنة وهو خارج عنها؟ فعنه ثلاثة أجوبة هي أقاويل اختلف فيها أهل التأويل: أحدها: أنه وسوس إليها وهما في الجنة في السماء , وهو في الأرض , فوصلت وسوسته بالقوة التي خلقها الله له إلى السماء ثم الجنة , قاله الحسن. والثاني: أنه كان في السماء وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك. والثالث: أنه خاطبهما من باب الجنة وهما فيها. { ... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الْشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} وهذا هو الذي ألقى به من الوسوسة إليهما استغواءً لهما بالترغيب في فضل المنزلة ونعيم الخلود. فإن قيل: هل تصورا ذلك مع كمال معرفتهما؟ قيل: إنما كملت معرفتهما بالله تعالى لا بأحكامه. وفي قول إبليس ذلك قولان: أحدهما: أنه أوهمهما أن ذلك في حكم الله جائز أن يقلب صورتهما إلى صور الملائكة وأن يخلدهما في الجنة. والثاني: أنه أوهمهما أنهما يصيران بمنزلة الملائكة في علو المنزلة مع علمهما بأن قلب الصور لا يجوز. قوله عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} أي حلق لهما على صدقه في خبره ونصحه في مشورته , فقبلا قوله وتصورا صدقه لأنهما لم يعلما أن أحداً يجترىء على الحلف بالله كاذباً. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون معنى قوله: {وَقَاسَمَهُمَا} أي قال لهما: إن كان ما قلته خيراً فهو لكما دوني وإن كان شراً فهو عليّ دونكما ومن فعل ذلك معكما فهو من الناصحين لكما , فكانت هذه مقاسمتهما أن قسم الخير لهما والشر له على وجه الغرور لتنتفي عنه التهمة ويسرع إليه القبول.