والثاني: أقسم بالجبال؛ لما أرساها في الأرض، وجعلها أوتادا لها؛ لئلا تميد بأهلها، ولا تميل، على ما ذكر في غير آي من القرآن عظم شأن الجبال من هذه الجهة في قلوب الخلق.
والثالث: لما أخرج منها مع شدتها وصلابتها وغلظها وارتفاعها المياه الجارية وغير الجارية الصافية الباردة، وهي من ألين الأشياء وأخرج منها الأشجار الكثيرة المثمرة وغير المثمرة من غير إنبات أحد، ولا غرسها، وغير ذلك من المنافع التي جعل في الجبال مما لا يمكن للخلق استخراج ذلك منها بحيلهم وتكلفهم، فأقسم بها لعظم ما جعل في الجبال من المنافع والبركات.
وكذلك إن كان القسم بالتين الذي يؤكل والزيتون الذي يخرج منه الزيت؛ لما جعل لهم في ذلك من المنافع العظام، كقوله - تعالى -: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) فمن هذه الوجوه التي ذكرنا يحتمل القسم بالجبال والتين والزيتون.
أو ذكر التين والزيتون والمراد بهما: الجبل؛ لما في الجبل يكونان عندهم، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) هو مكة؛ سماه: أمينا؛ لما يأمن من دخله، أو يؤمن من دخله ويحفظه؛ لأن الأمين عند الناس هو الذي يحفظ من ائتمن عليه وفيه، وهو المأمون به.
ثم جائز أن يكون القسم بالبلد لأهل مكة ولأهل الشرك؛ لما عظم شأنه وأمره عندهم وفي قلوبهم، وأقسم بالجبال؛ لعظم قدرها ومنزلتها ومحلها في قلوب أهل الكتاب؛ لما كانوا يؤمنون ببعض الوحي، وأهل مكة لا يؤمنون بالرسل وبالوحي؛ ولكن يعظمون ذلك البلد.
وجائز أن يكون القسم بما ذكر كله لهم جميعا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) قال أهل التأويل: على هذا وقع القسم، لكن القسم بغيره أولى وأقرب؛ لأنهم قد شاهدوا وعرفوا أنه خلق الإنسان على