زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه لو تفكر فيه الخلائق فاستفرغوا مجهودهم؛ ليعلموا من أي موضع يجتمع الماء؟ وكيف ينبع؟ وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار - لم يصلوا إلى معرفته؛ فيعلموا أن علمه ليس بالذي يحاط به، فيكون في ذكر هذا إنباء أنه لا يخفى عليه أمر، ولا يعجزه شيء، بل العالم كله تحت تدبيره يفعل بهم ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأن الذي قدر على خلق هذا لقادر على إحيائهم وبعثهم للجزاء.
وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض الغبراء المتهشمة؛ فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم، فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض، لكان يمنع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض، فلو تفكروا فيها، لكان يزول عنهم الإشكال؛ فلا يدعون مع اللَّه إلها آخر، ولا يقولون: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا).
وقولنا: إن فيه إثبات الرسالة، وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لا بد أن يستأدي منهم الشكر، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه بم يكون؟ فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك.
فَإِنْ قِيلَ: كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء، وهم لو نظروا آخر الأبد؛ ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء، لم يهتدوا إلى ذلك الوجه؟
فجوابه: أنهم لو تداركوا ذلك الوجه وفهموه، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال؛ إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي يهتدي إليها؛ فارتفاع التدارك، وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل، ويزيل عنهم الشبه؛ إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم، وأنه خلافهم من جميع الوجوه، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) في هذه الآية - واللَّه أعلم - أمر من اللَّه تعالى لرسوله عليه السلام ألا يجازيهم بصنيعهم إذا استقبلوه بما يكره من أذى يوجد منهم واستخفاف يجيء منهم؛ فيقول: ذكرهم باللَّه تعالى، وذكرهم عظيم نعمه وذكرهم كيف هلك مكذبو الرسل، وكيف نجا من صدقهم وعظم أمرهم ولا تقهرهم، ولا تجازهم بصنيعهم، وكل ذلك إلى اللَّه تعالى.